بين مصر والسعودية “مشروع صدام عند منعطف”؟

بين مصر والسعودية “مشروع صدام عند منعطف”؟

فلسطين المحتلة : في أول "جمعة غضب" مسيرات وشهداء وجرحى لإسقاط قرار ترامب
مات رفسنجاني فهل تهتز ايران؟
La guerre en Ukraine fait bouger les lignes dans le Golfe

لم يكن تدهور العلاقات المصرية السعودية مفاجئا تماما، فلكل أزمة أسباب وخلفيات ومقدمات تومئ إليها. ما كان مكتوما خرج إلى العلن على خلفية التصويت المصرى فى مجلس الأمن لصالح مشروع القرار الروسى. وما كان مستبعدا بات واقعا بتعليق شركة «أرامكو» السعودية امدادات المواد البترولية لمصر عن شهر أكتوبر، وهناك احتمال أن يتمدد التعليق إلى وقف كامل.

أمام لحظة الحقيقة تحتاج مصر، كما السعودية، إلى مراجعة جدية لحقيقة العلاقات، ضروراتها ومستقبلها. لم يكن هناك فى أية لحظة علاقات تستحق أن توصف بـ«التحالف الاستراتيجى». هناك فارق بين الرهانات المتبادلة بعد (٣٠) يونيو وبين التحالفات الاستراتيجية.

راهنت السعودية أثناء حكم الملك «عبدالله» على تمكين النظام الجديد اقتصاديا ودبلوماسيا خشية تمدد نفوذ جماعة الإخوان داخل دول الخليج وتقويض نظمها استنادا إلى سيطرتها على الحكم بأكبر دولة عربية وتطلعا لأن تنهض مصر من جديد حتى يمكنها أن توازن بحجمها الجغرافى والتاريخى والسكانى والعسكرى الدور الإيرانى المتصاعد فى الإقليم.

بذات القدر راهنت السلطة المصرية الجديدة على تواصل الدعم النفطى والاستثمارى والمالى حتى يمكن أن يقف البلد على قدميه ويتخلص من صداع الأزمات الاقتصادية الطاحنة.

عندما استهلكت الرهانات أوقاتها وعجزت السياسات عن بناء قاعدة تفاهمات حقيقية فى النظر إلى الإقليم وأزماته وسبل الخروج منها بدأت أصوات سعودية وخليجية تسأل: لماذا لم تتدخل مصر معنا فى حرب اليمن؟.. وأين تصريحات رئيسها عن «مسافة السكة»؟.. ثم إلى متى سوف نستمر فى المساعدات الاقتصادية.. ولماذا وبأية عوائد سياسية؟

ثم بدأت التساؤلات تتطرق بقلق إلى الأوضاع الداخلية وتنظر بأسى فى الأداء السياسى والاقتصادى.
بأى حديث جدى عن خلفيات الأزمة هناك حقيقتان:
الأولى ــ أن أحدا لا يصح بالادعاء أن يمن على الآخر، فالمصالح كانت قاعدة الرهانات قبل أى شىء.
والثانية ــ أنه لا مصلحة لأى من البلدين فى الصدام والقطيعة، وكلاهما يحتاج إلى الثانى.

ليس هناك ما يبرر أى تعالٍ سعودى على مصر بالكلام الدبلوماسى المنفلت أو بتعليق الإمدادات البترولية كنوع من العقاب الاقتصادى فى أوقات حرجة.  النتائج سوف تكون وخيمة على السعودية المأزومة فى الملفات الإقليمية والمستباحة بقانون «جاستا» الذى أصدره الكونجرس الأمريكى بما يشبه الإجماع.

الأزمات المتفاقمة تنذر بأوضاع سعودية قاسية فى المستقبل المنظور عند توزيع القوى والنفوذ ورسم خرائط الإقليم من جديد بعد انتهاء الحرب على «داعش». ليست مصادفة أن تصدر أخيرا فى توقيت واحد أربعة كتب غربية تبحث فى المستقبل السعودى من زوايا مختلفة وسيناريوهات متعددة لا تستبعد تقسيمها.

أرجو مخلصا التعقل قبل الانتقال من شبه تحالف إلى مشروع قطيعة، فالسعودية ليست قوة عظمى تملى وتأمر، ومصر ليست دولة هامشية تتلقى التعليمات صاغرة. من غير المقبول بأى حساب أن يتحدث المندوب السعودى بالأمم المتحدة باستخفاف وخفة عن التصويت المصرى لصالح مشروع القرار الروسى من أنه «لا يعبر إلا عن نفسه».

بغض النظر عن أية انتقادات مشروعة فإن اللغة ذاتها تنطوى على «جلافة دبلوماسية» لا تليق بين أصدقاء، وأوهام قوة لا وجود لها فى الواقع. مشكلة المندوب السعودى أنه يفترض وجود توافق عربى فى الأزمة السورية خرجت مصر عن مقتضى الالتزام به. ذلك وهم كامل إلا أن يكون ما يقصده هو ضرورة اتباع ما تقرره بلاده من سياسات وما تتخذه من مواقف دون أى حق فى التصرف المستقل.

هذه تبعية مفترضة لا تحالفات استراتيجية. لم تكن الفجوات المصرية السعودية فى الملفين اليمنى والسورى خافية على أحد. السعودية أقدمت على التدخل العسكرى منفردة لحسم الصراع اليمنى فى «عاصفة الحزم» قبل قمة «شرم الشيخ» العربية بساعات، وتأخرت فى إخطار القاهرة حتى قبل العمليات العسكرية بيومين أو ثلاثة، ومع ذلك أدرجتها ضمن ما أسمته «التحالف العربى».

لم يكن هناك مثل هذا التحالف بأى معنى استراتيجى وعسكرى، لكنها ضرورات الإيحاء بقيادة العالم العربى. لأسباب عديدة أحجمت مصر بنوع من الإجماع عن التورط فى اليمن بأثر تجربتها فى الستينيات. هناك فارق حاسم بين التدخل العسكرى المباشرة مقابل المساعدات الاقتصادية، وهذه من أعمال «المرتزقة»، وبين الالتزام الكامل والنهائى بأمن الخليج والتدخل لحماية دوله، فالمصير واحد رغم أية اعتبارات اقتصادية.

بصورة لا تخفى جرى إبعاد مصر عن الملف اليمنى فى جانبه السياسى، رغم أنها الطرف الوحيد المقبول من جميع الأطراف المتصارعة. فى الأزمة السورية الصورة أكثر تعقيدا، فالموقف المصرى بعد (٣٠) يونيو اختلف عما قبله، وهو فى مجمله صحيح من حيث ضرورة الحفاظ على وحدة التراب السورى والجيش السورى ومحاربة الجماعات المتطرفة والمضى قدما فى الحل السياسى، الذى لا حل غيره لأكثر المآسى دموية وإهدارا لأية قيم إنسانية. إلى حد كبير فهو يقترب من الموقفين الروسى والإيرانى، ويبتعد بذات القدر عن المواقف الأمريكية والأوروبية والتركية والسعودية.

رغم أية مساحة مشتركة مع إيران، التى تطرق أبواب القاهرة بلا كلل، حرصت سلطاتها على عدم نقل أية اتصالات إلى المستوى الدبلوماسى، الأمر نفسه تكرر مع وفود الحوثيين فى الأزمة اليمنية، مراعاة للسعودية والخليج معها، رغم أن الحديث مع إيران ضرورى ومفيد لكل الأطراف. وقد أدى التهميش المقصود لأى دور مصرى إلى إثارة حساسيات لم يكن لها لزوم بأثر التعالى.

لم يكن هناك جديد فى الموقف المصرى من الأزمة السورية عندما صوتت لصالح مشروع القرار الروسى، الذى يدعو إلى الفصل بين المعارضة المسلحة والتنظيمات الإرهابية فى حلب، باستثناء أنه أعلن عن نفسه عبر منصة مجلس الأمن فى جلسة لم يكن أحد يتوقع أن تسفر عن تمرير أى قرار.

ربما لهذا السبب صوت المندوب المصرى، فى حادثة لا مثيل لها، على مشروعى قرارين متناقضين، فالفرنسى، على عكس الروسى، يتبنى بدعم أمريكى وبريطانى وقف إطلاق النار فى حلب وفرض حظر جوى فوقها، بما يعنى عمليا توفير شىء من الحماية الأممية لتمركزات إرهابية.

هناك احتمال راجح أن تكون الدبلوماسية المصرية قد سعت لأسبابها الداخلية إلى تخفيض حدة التوتر مع روسيا على خلفية تداعيات إسقاط طائرتها فوق سيناء، وعودة السياحة فى أقرب وقت ممكن.. دون أن تخسر الحليف الأوروبى الأول. وهذه طريقة غير لائقة بأى نظر دبلوماسى فى إدارة المواقف الصعبة.

الوضوح أفضل الخيارات، كان يمكن الامتناع عن التصويت على مشروع القرار الفرنسى، كما فعلت الصين حليفة روسيا فى الامتناع عن التصويت على مشروع القرار الذى تقدمت به.

السؤال الجوهرى هنا: لماذا تجاهلت الدبلوماسية المصرية حسابات السعودية على غير ما اعتادت؟
أحد التفسيرات الممكنة أن التجاهل رد فعل على ما اتخذته شركة «أرامكو» من إجراءات بشأن إمدادات المنتجات البترولية قبل اجتماعات مجلس الأمن، ربما للتعجيل بحسم انتقال جزيرتى «تيران» و«صنافير» إلى السعودية.
لا يمكن تجاهل أن ولى ولى العهد «محمد بن سلمان» الأكثر إلحاحا فى هذا الملف لتزكية صعوده إلى موقع والده مباشرة، هو نفسه صاحب الكلمة الأولى فى «أرامكو».

بالنسبة لمصر فإن خطوة «أرامكو» ضربة لا يستهان بخطورتها، فضغوط صندوق النقد الدولى تلح قبل إقرار قرض الـ(١٢) مليار دولار على اتخاذ إجراءات مسبقة تبدأ فى رفع الدعم عن الوقود وتعويم سعر الجنيه، وهو ما قد يفضى إلى ثورة جياع لا تقدر عليها أية سلطة.

ومن الأسئلة الجوهرية: هل تمتد الأزمة إلى إيقاف كل الاتفاقيات التى وقعت أثناء زيارة العاهل السعودى للقاهرة؟ وهل تلجأ مصر إلى إيران للحصول على احتياجاتها البترولية، كما صدرت إشارات رسمية أولية؟.. وهذا ما لا تقدر السعودية على تحمل تكلفته الاستراتيجية المروعة.

عبدالله السناوي، كاتب ومفكر سياسي عربي من مصر
الشروق، الثلاثاء 11 أكتوبر/تشرين الأول 2016