داوود عبد السيد : أصنع فيلماً بشروطي، وجمهوري، غالباً، شبان متوسطى العمر، متعلمون جيدا، مثقفون، متحررون

داوود عبد السيد : أصنع فيلماً بشروطي، وجمهوري، غالباً، شبان متوسطى العمر، متعلمون جيدا، مثقفون، متحررون

صربيا : جمهور “النجم الأحمر” يرفع كوريغرافيا بأسماء الدول ـ الضحايا لعدوان أميركا و”الأطلسي”
دور البنية التنظيمية للمستوطنين في تعاظم إرهابهم بالضفة الغربية في فلسطين المحتلة
الجيش الأميركي والفساد : جنس وحفلات ورحلات و… صفقات تجارية

حين جلست إلى المخرج الكبير «داود عبدالسيد»، فهمت أن البهجة التى نراها فى أفلامه تكمن فى صميم روحه هو، لا غيره. وأن قدرته على تحويل ضحايا بؤس الواقع إلى صُنّاع للبهجة، كما فعل فى «الكيت كات»، تجئ من اقتناعه الراسخ بأن الفن فى حرب حقيقية دائمة ضد الكآبة والقبح، وصدقته حين قال: «لا تعارض بين الجدية وخِفّة الدم».
وكما انتصر الشيخ حسنى الأعمى، على بؤس حياته، بالغناء، وركوب فيسبا سليمان الجواهرجي، واصطحاب أعمى آخر إلى السينما، وطيرانه بالموتوسيكل فى نهاية الفيلم وسقوطه هو وابنه فى النيل، وحين صاح يوسف فيه بأعلى صوته: «يابا انت أعمى ياباااا» فرد عليه بأغنيته الموحية «يلا بينا تعالوا» قائلا: «..وكل واحد مننا يركب حصان خياله..»، ينتصر هو لفكرة الخيال، وينحاز للموجوعين والبسطاء، ليس بالخيال الإبداعى الجمالي، بل العملى، الذى يساعد على تحقيق الأحلام، ويجعل الحياة مكانا آمنا.
ذكّرنى طوال الحوار، بالعظيم «نجيب محفوظ»، وحوارى معه قبل رحيله بسنوات، فى الهدوء، وحنكة الأداء، وبساطة الكلمات، وعمق المعاني، والإصرار على إنكار الذات، ورفض الإقرار بأى ميزة شخصية مهما كانت واضحة للجميع. وبالرغم من جمال أفلامه، مثل روايات محفوظ، يعتبر نفسه فى محاولات لتقديم فن جيد، ويقول باطمئنان: «لست مخرجا محترفا.. ولا كاتبا محترفا». فقط يصنع الأفلام بشروطه، ليُشفَى من الحُمَى التى تنتابه حين تستولى عليه الفكرة. ويراهن على جمهوره من الشبان متوسطى العمر، المتعلمين جيدا، المثقفين، المتحررين!
من يصدق أن هذا المخرج الكبير الذى يفيض حناناً على شخوصه المحبطين فى أفلامه، وعلينا جميعا بإبداعه الرفيع، ويشيع البهجة فى نفوسنا وحياتنا بأفلامه الصادقة، يقول إن شركات الإنتاج:«لا تريد رؤيته من الأساس»!!.

تشغلنى جدا علاقة السينما بالأدب، واختلاف أفق الصورة عن السرد، مثلما فعلت فى رواية «مالك الحزين» للراحل الكبير «إبراهيم أصلان»، فتكنيك الفيلم يختلف لحد كبير عن تقنية الرواية، كيف فعلت هذا مع الحفاظ على روح العمل الأدبى؟
ثمة اختلافات كثيرة بين السينما والأدب، أو الرواية تحديدا، الرواية تقوم على الوصف كثيرا، فدعنا مثلا نصف المكان هنا، واسع، يمتلئ بالشباب، والإضاءة، وصخب الأصوات! فى السينما، تجمع الكاميرا كل هذا الوصف فى ثوان، الكاميرا لقطة للمشهد بتفاصيله، وإذا أردت لفت الأنظار لتفاصيل معينة، يمكنك توجيه الكاميرا إليه (زوم). وثمة فرق آخر، أن السينما تعتمد على الصراع، ممكن يوجد فى الرواية صراع، لكن السينما تعتمد عليه كأحد شروط الدراما الأساسية، فى المسرح المصرى القديم كنت تجد الممثل يعلو بالصراع ويعلو، حتى يصل إلى الكريشِيندو، وكان هذا سخيفا، لكن المتفرج يصفق، لو فعلت هذا المشهد فى رواية لن يصفق أحد. فماذا أقصد بالصراع؟. أن تحشد أحساسيس المتفرج نحو مواجهة معينة، السينما تأثيرها أسهل فى هذه النقطة. وفى رأيى تحويل الأدب إلى سينما فى حقيقة الأمر خيانة للنص الأصلي، مثل الترجمة، لكن ثمة خيانات مقبولة، والأدب أحد مصادر الدراما، لكن من وجهة نظرى يجب افتراس العمل الأدبي، مثلما يفعل الأسد مع غزالة، وعندما يفترسها لا تنبت له رجل غزالة، بل يهضمها ويبنى بها جسمه، تتحول الغزالة إلى أحماض أمينية وبروتين و.. و.. نجيب محفوظ قال: ليس لى علاقة بروايتى عند تحويلها إلى فيلم، روح العمل موجودة فى كتابه، ليس مهما أن تنتقل إلى الفيلم، وثمّة مثال آخر، رواية «الحب فى زمن الكوليرا»، حين حوّلُوها إلى فيلم أفسدوها! نتيجة الافتراس كان «طعمها وحش»، فإذا أحببت رواية أخشى تحويلها إلى فيلم، شرفها ينتسب إلى مؤلفها، فلم آخذها لأفسدها؟ فى الكيت كات الرواية ممتعة، والفيلم ممتع، وهذا هو النجاح. استحالة أن يكون الفيلم مطابقا للرواية، شخصيات مالك الحزين كثيرة جدا، مدة الحدث طويلة أيضا، حوالى ثلاثة أيام، لماذا لم يسم الفيلم مالك الحزين؟ لأنه مرتبط بالرواية، الكيت كات موزاييك لمنطقة وحالة، وينتهى بـ 18و19 يناير، لم أكن بحاجة لكل هذه الشخصيات فى الفيلم، خط درامى أو اثنين. وعلى الجانب الآخر، ثمة أفلام حازت شهرة أكبر من الرواية المأخوذ عنها، مثل «ذهب مع الريح»، الرواية تعيسة، والفيلم حاز شهرة واسعة، وهناك نماذج كثيرة مثل هذا، لا أقول إن الفيلم منفصل عن الرواية، ولا إبداع مواز، هو ناتج عن الرواية، تفاصيل الكيت كات من الرواية، وتفاصيل فى الرواية غير موجودة فى الفيلم، عندما أنهيت السيناريو أرسلته لإبراهيم أصلان كى يقرأه، لم يقل شيئا، قد يكون انزعج، وربما قال معقول، لا أعرف، قلت له إنك ستجد اختلافات، لكنى لم أعرف ردة فعله.

نافست بخِفّة دمك خِفّة دم إبراهيم أصلان، عكس ظاهرك الجاد، وحققت بمواقف الشيخ حسنى الفضائحية كوميديا فريدة، فكيف صالحت بين خفة الظل والجدية؟.
خِفّة الدم لا تتعارض مع الجدية، بل لابد أن تكون جادا ليكون دمك خفيفا، خذ الأمور بجدية هيبقى دمك خفيف.

هل من المهم أن تكون رؤية الكاتب مطابقة لرؤية المخرج؟ وأن يكون بينهما اتفاق فكرى؟ مهتم مثله بالمهمشين، فمعظم أعمال إبراهيم أصلان من شارع «فضل الله عثمان» بالكيت كات، وأنت من مصر الجديدة، وهناك اختلاف كبير بين ظروف النشأة؟.
بالطبع يدخل فيها كل هذا، حبك لنوع معين من البشر، وانتماؤك، وانحيازك، وجهة نظرك ليست مرتبطة بالطبقة التى تنتمى إليها، من الممكن أن تكتب عن طبقة فاسدة وأنت لست منهم.

مهنة مساعد المخرج التى بدأت بها حياتك الفنية، فيلم الأرض، رجل فقد ظله، قلت إنك لم تحب مهنة مساعد المخرج، كنت تعسا جدا وزهقان ولم أحبها، لأنها تتطلب تركيزا تفتقده، وقلت إنك غير قادر على التركيز إلا فيما يهمنى جدا.فما هى العناصر التى تركز عليها بشكل رئيسى قبل البدء فى أعمالك؟
أغلب أفلامى كتبت سيناريوهاتها، ومع هذا أقول إننى لست كاتب سيناريو، ولست مخرجا، فكاتب السيناريو المحترف شئ آخر، هو الشخص الذى يأتى للمنتج بفكرة قصة، أو مسرحية، أو رواية، أو حادثة، ويقول له ما رأيك بكتابة سيناريو يدور حول هذا الموضوع، ففيه عناصر تصلح للتحويل إلى سينما، ويأخذ أجره ويكتب السيناريو، أنا لم أفعل هذا أبدا، حتى فى العملين المأخوذين مع أعمال أدبية لم يحضرهما إلى أحد، تعجبنى فكرة العمل فأحاول أن أحقق فيلما فقط، لست مخرجا محترفا، ولا سيناريست محترفا، الاحتراف أمر آخر! دراماتورجي، موهوب، كل السينما الأمريكية هكذا، سينما المؤلف ذاتية، لا أقصد شخصية، هى معرفة العالم من خلال ذاتك. التركيز يأتى مع العمل، عندما يلح عليك موضوعا تريد أن تكتبه، تصبح محموما به، حتى إذا تعثرت فى كتابته تصبح غير قادر على الخروج من أسره، فتصارع نفسك وموضوعك حتى تجد الطريق، هذا هو التركيز، شيء يشبه الحب، أنت تحب امرأة ما، فتسعى للوصول إليها هى تحديدا، وليس امرأة أخري.

أنت من المخرجين الكُتّاب، أى تُفضل كتابة سيناريوهاتك بنفسك، فهل هذا لأنك لا تثق بمواهب موجودة، أم تحب الهيمنة على موضوعك برمته من البداية؟
لا، الكتابة صعبة، والأسهل أن يكون هناك سيناريو يعجبنى وأخرجه، قلت لك إننى لست مخرجا محترفا ولا كاتبا محترفا، لكن فى الوقت نفسه الأعمال الكبيرة لا تتطلب الاحتراف، هذا أصل الأدب أو الفن بشكل عام، الفنان التشكيلى لا يرسم ما يطلبه الجمهور، يرسم بدوافع ذاتية!

بعد نجاح أعمالك الروائية لم ينتبه الناس لأفلامك التسجيلية، مثل «وصية رجل حكيم فى شئون القرية والتعليم» عام 1976 و«العمل فى الحقل» سنة 1979، و«عن الناس والأنبياء والفنانين» سنة 1980، فهل كانت تجربة ناجحة أو عميقة، أو حتى بروفة مهمة شجعتك على خوض تجربة الأفلام الروائية؟.
لم يكن لدى منجز كبير فى السينما التسجيلية. لكن حدث أننى بعد تخرجى كانت لدى شكوك شديدة فى نفسي، دخلت وتخرجت من معهد السينما عام 1967، كنت أتساءل هل سأصلح كمخرج جيد، ولم أكن أعمل وقتها، فقلت لنفسى لماذا لا تكتب، جلست للكتابة بمعاناة عدم الخبرة، وبدون ثقة فيما أكتبه، كتبت سيناريوهات لكننى كنت أراها لسبب أو لآخر لا تصلح للتنفيذ، ظللت عشر سنوات على هذا المنوال، وفى نهايتها كنت أكتب السيناريو الذى يرضيني، حتى تم تعيينى فى مؤسسة السينما، عملت مساعد مخرج فى أفلام روائية انتاج مؤسسة السينما، وكما قلت سابقا، كنت أحاول الفهم، البحث عن شيء أنا نفسى لا أعرفه، ثم نقلونا إلى المركز القومى للسينما، فعملت أفلاما تسجيلية قصيرة، هذه مرحلة السينما التسجيلية، لكن فى نهاية السنوات العشر السابقة كنت أعرف بأننى أريد التوجه إلى إخراج الفيلم الروائي، وكتابة السيناريو. والفيلم الأول »وصية رجل حكيم فى شئون القرية والتعليم« سياسي، وليس تسجيليا أو روائيا، عن قرية فى كفر الشيخ، تزدهر فيها حركة اليسار، مجموعة من المدرسين يحاولون محو أمية القرية، وحدث صراع كالذى يحدث فى الحياة، بينهم وبين المخالفين لهم، وقمت بعمل الفيلم على لسان راو خارجى غير حقيقي، وهو فيلم مازال يوترنى حتى الآن لأن به صوتا فاشيا. وكانت أكثرية الأفلام وقتذاك دعائية تتحدث عن إنجازات تلك المرحلة، وجاء هو مخالف لهذه الموجة بكشف الزيف. و«العمل فى الحقل» ليس له علاقة بالزراعة، بل عن لوحة للفنان التشكيلى حسن سليمان، وهى لوحة شهيرة لنورج يدور، وكانت فكرة الفيلم البحث عن حسن سليمان، ثم جاءت التعليمات بمنع صناعة الأفلام الاجتماعية، وهو فيلم جيد، لكن العمل فى السينما التسجيلية صعب لمّا يتعلق الأمر بالميزانيات والإمكانيات، ثم جاء فيلم «عن الناس والأنبياء والفنانين»، عن «راتب صديق وزوجته»، هو رسّام وهى نحّاتة، وكان راتب صديق يرسم الأنبياء وله لوحة كبيرة عن يوم الحشر، وهو مثقف حقيقى وتعلم بالخارج، لكن ثمة انفصال بين الفنانين والشعب، وحاولت فى الأفلام الثلاثة أن أخرج برّه التقاليد الحديدية السائدة، أن أخرج شيئا أكثر عمقا من نموذج الفيلم التسجيلى المعروف بوجود صورة وبضعة تعليقات!.

هذا يدل على أنك كنت مثقفا حقيقيا منذ البداية، وقارئا جيدا، الفنان الحقيقى يهتم بالقراءة لأنها مصدر حقيقى للمعرفة؟
كنت أحاول، لكننى لم أعتبر نفسى على مستوى عال من الثقافة. القراءة أحد المصادر المهمة، والمزيكا أيضا، ومحاولات فهم المجتمع مهم، والسينما كذلك.

يتردد كثيرا عند مبدعى جيل الستينيات والسبعينيات أن للنكسة تأثيرا قويا عليهم يشبه الصدمة، هل لديك الإحساس نفسه؟
بالنسبة لى كانت شئيا ساحقا، دبّابة مشت على أحلامك، على قناعاتك وإيمانك، وأتصور أنه حدث لجميع الناس، تصور أنك داخل يوم خمسة يونيو وأنت مقتنع أن جيشك أقوى جيوش المنطقة، أنهى الاستعمار، وقاد حركات التحرر، والتنمية الداخلية، وصنع من الإبرة إلى الصاروخ الظافر والقاهر، وبعد عدة أيام انكشفت الحقيقة، وعرفت أن هزيمتك تمت فى ست ساعات، وأنك لم تحارب من الأساس.

أتاحت لك الأفلام التسجيلية الغوص فى المجتمع، والتعرف على الناس، فلأى مدى جعلتك تُقيّم الأحوال، وهل مثلت لك إضافة ثقافية أو دربة مهنية؟
أنا ابن المدينة، فى الجيش من الممكن أن تلتقى بكل أطياف المجتمع! لكنى لم أجند كما قلت لك، أثناء عملى كمساعد مخرج عاينت بعض المصانع، ذهبت إلى الريف، لكنها لم تكن جرعة كافية، لا تستطيع أن تهرب من فكرة الجيتوهات مهما حاولت.

رأيتك كثيرا فى ميدان التحرير أثناء الثورة، وكنت غارقا فى الحالة فى كل المرات التى رأيتك فيها؟.
لم يستمر حبى طويلا لميدان التحرير، صار مولدا، كرنفاليا أكثر من بعد موقعة الجمل مباشرة، وهذا هو ما جعل الكثيرين يغادرونه، خلاص، تم تنحية مبارك، وبدأت مرحلة تبريد الحالة!

قلت: «إن الفيلم التسجيلى يتيح لك حرية التجريب بلا خوف أو خسارة مادية، أقصد بالتجريب أن تُعبر عن المضمون الذى لديك بصورة متحررة، وحين تعبر فقد صار بإمكانك التجريب، ولو نجح التجريب فستكتسب الثقة فيه، وتجد القدرة على المزيد منه»، فهل قياسا على هذا أنك فى حالة تجريب دائمة فى أفلامك الروائية؟
لست أنا من يحكم على هذا بل المتفرجون، أتمنى بالطبع أن يكون هذا محققا فى أفلامي، إضافة إلى أن مفهوم التجريب عندى لا تعنى أن أخرج أفلاما غامضة. رأيى أن التجريب فى المسرح الآن ظواهر مصنوعة، لقد تم القضاء على المسرح القومى ومسرح الحكيم، وسادت العروض التجريبية، وبدأ الاهتمام بفنون أخرى كالأوبرا، الباليه، والفن التشكيلي، ولست ضد هذا الاهتمام بالعكس، لكن الفنون التى كانت تمتلك الكلمة صاحبة الرسالة أُهملت، ثم تم تدشين مهرجان المسرح التجريبي، هل من المنطقى أن يكون هناك مسرح تجريبي، والمسرح الكلاسيكى غائب، لا تقدم كلاسيكيات عالمية أو مصرية كنعمان عاشور ومحمود دياب!

كل فيلم لك يمثل نقلة مختلفة، والجمهور يذهب إلى السينما مترقبا مفاجآتك الجديدة، كأنك صنعت لدينا »شغفا داوُديا« خاصا، فهل هذا من أهدافك؟
أقصد أن أصنع فيلما بشروطي، كى أُشفَى من الحُمَى التى أشعر بها بشكل ما، ويعجب الجمهور من ناحية أخري، حقا لا أستطيع الوصول إلى كل الجمهور، فهذا يتطلب أن أكون فى السينما التجارية، لكننى أحاول، وأعرف نوعية جمهوري، غالبا شبان متوسطى العمر، متعلمون جيدا، مثقفون، متحررون!

قلت إنك لم تطمح فى طفولتك لأن تكون مخرجا سينمائيا، ربما أردت أن تكون صحفيا، ولكن حب ابن خالتك للرسوم المتحركة، واقتناءه الكاميرا، ومحاولاته تصوير أشياء بسيطة فى المنزل وعلاقاته ببعض العاملين فى السينما، وذهابك معه إلى استديو جلال، وحضور تصوير فيلم للمخرج أحمد ضياء الدين، كان لحظة انبهار بالسينما لأول مرة، فهل مازلت تنبهر بالسينما، وهل الانبهار شرط التجدد؟
من الممكن أن أرى فيلما وانبهر به، إنما بكارة الصدمة الأولي، أعطيك كل ما أعطتنى الدنيا من التجريب والمهارة.. لقاء يوم واحد من البكارة، هذا بيت شعر لصلاح عبدالصبور.

قلت عن ذلك اليوم وتلك المصادفة إن ما أبهرك ليس النجوم، ولا الإخراج، ولا التكنولوجيا، بل شيء آخر غامض حقا، وهو ما دفعك لدخول معهد السينما، وبعد تجربتك المشهودة، هل عرفت الشيء الغامض وهل يمكنك أن تحدثنا عنه ببعض التفضيل؟
دخلت البلاتوه فى استديو جلال، كنت مشدودا وأتذكر أننى استندت إلى البلاتوه وكان الطلاء طرياً فتلطخ الـ «تى شرت» الذى ألبسه، جو عام أبهرني، لم أعرف هذا الشىء الغامض، الغموض هنا ليس شيئا عميقا، ثمة شيء أثر فى صبى مراهق، ليس هذا وحده، كان أجمل يوم عندى يوم الخميس، لأننا كنا نأخذ نصف يوم دراسي، أعود لأجد مجلة صباح الخير، ومع أصدقائى نقرر الذهاب إلى السينما، وكانت مصر تزخر بالكثير منها، الصيفى والشتوي، وكانت كل سينما تعرض فيلمين، عرضا مستمرا ثم إعادة للفيلم الأول، وعند الاختيار كنا نراعى ألا ندخل سينما تعرض فيلما شاهده أى واحد منا، نخرج السينما من الاختيار، ونتركها لأخري، كان لهذا معني، مرة دخلت سينما بعد بداية الفيلم، شاهدناه ورأينا الفيلم الثاني، لكننى ظللت مبهورا بالأول، وقتذاك، اكتشفت أن هناك نوعا من الأفلام تستمتع بمشاهدتها أكثر من مرة، المشاهدة المتعددة لا تقلل المتعة، هناك نكتة عن شاب دخل السينما، ولم يمنح الموظف الذى يقود إلى الكراسى إلا بضع قروش، فمال الموظف على الرجل وهمس له: «الطباخ هو القاتل» ليحرق له الفيلم، فهناك أفلام تفسد من المشاهدة الأولي، ظل هذا فى ذهنى وأنا أخرج كل أفلامي! فهيمن على فكرى أن ألغى خطة الطباخ هذه! وقتها كانت موجة أفلام السينما الأوروبية، وهى حملت شعار «الكاميرا مثل القلم»، لم أقلدها، لكنها أنارت لى الطريق، وكثير من الأفلام الأخرى، روسية وتشيكية ومجرية، عرفت أن هناك سينما أخرى غير السينما التجارية، وكان حلمى أن تصبح السينما مثل المزيكا، لأن الفيلم الجميل لا تنساه، بل تسعى إليه مرة أخرى.

فى كل أفلامك تبدو حنونا على شخصياتك، خاصة الضعفاء والمهمشين، فهل هى رؤية فكرية، وانحياز سياسي، أم نتاج طبيعتك الإنسانية، أم كلها معا، هل ترى المبدع كلما نضج ترفق بشخوصه أكثر؟
أحب البشر، هناك جزء مسيحي، فى موعظة الجبل يقول المسيح: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، وأحسنوا للذين يسيئون إليكم». تساءلت: «ماذا يعنى أن تحب عدوك أو تحسن لمن يسيء إليك؟»، لا تحدث إلا بطريقة واحدة، أن تفهمه، لو فهمت أى شرير لكن لو فهمتنى تفهم من أين أتى الشر، من الظروف التى مررت بها ومن نقص معين، والنشأة، والأوضاع الاقتصادية، وبعد أن تفهم ما الذى ستكره من وضع الشر، وستجد نفسك تغفر، لأنك فهمت، وتصبح الحِنِّيَة جزءا من القلب، على الرغم من أننى حاد، أكتشف هذا وقت مراجعاتي، وعلى الآخرين أن يفهموا سبب الحدة ليلتمسوا لى العذر.

هل أنت حنون مع فريق العمل فى الاستديو، كما أنت حنون مع الشخصيات؟ وهل المفاجآت التى تعطل العمل توترك أو تضايقك؟
بالطبع، عموما أتعامل مع الناس بلطف، لا أرى أن أحدا أعلى من أحد، هناك خصائص دنيئة فى بعض البشر، لكنى لست مضطرا للتعامل الزائد مع هؤلاء، أما بخصوص مفاجآت العمل، فعمال السينما محترفون وعلى مستوى عال، والأخطاء فى أقل حدودها، أحيانا يكون الإنتاج سيئا، وهذا ليس جديدا، لكن ما باليد حيلة.

هل أسعدك اختيار «الكيت كات» و«أرض الخوف» و«رسائل البحر» فى قائمة أهم 100 فيلم عربى التى أصدرها مهرجان دبى عام 2013؟
لم يسعدنى بقدر إحساسى بأننى لم أكن أحرث فى البحر، وهناك تقدير لأعمالي.

وهل تبحث عنك شركات الإنتاج؟
لا تبحث عنى شركات الإنتاج، ولا يريدون رؤيتى من الأساس، القضية تتلخص فى جمهور السينما الآن، جمهور المولات الخالى من الهموم، غير المعنى بالقضية، وأفلامى لا تتناسب مع هذا الجمهور، فى فيلم الكيت كات، وهو أنجح أفلامي، ظللت خمس سنوات أبحث عن منتج، ذهبت إلى أكبر منتجى مصر والكل كان يرفض.

يبدو أداء الممثلين فى أعمالك على درجة عالية، ومتقاربة، وكأنهم يؤدون أفكارك، أو يأخذون من روحك، فهل تصر أنت على أخذ مستوى معين منهم مهما أعادوا التمثيل، وهل تراهم بإحساسك الشخصى أم بمستوى مهنى لديك، أم بعيون الجمهور؟
لا، زمان كنت أشتغل بأفلام 35 ملي، وهو غالى بالطبع، الآن التصوير ديجيتال، مهما تمت إعادة المشهد فهو غير مكلف، التكلفة فى الوقت، لكن بخصوص الأداء لدى وجهة نظر، الاختيار الصحيح منذ البداية يضمن خمسين بالمئة من نجاح العمل، الباقى يعتمد على الممثل! مراعاة خصائص كل ممثل وحرفيات التمثيل، معرفة إمكانات أو عيوب كل واحد وإسناد العمل الملائم لإبراز هذه الخصائص أو تلافى العيوب.

هل تكرار اسم يحيى فى أرض الخوف ورسائل البحر وقدرات غير عادية مصادفة أو ليس له دلالة؟!
الاسم نفسه لا، لكن يحيى فى أفلامى هو شخص واحد بوجوه وصور متعددة، مؤكد ثمة علاقة بينى وبين هذه الشخصية، هدفى تقديم العالم الذى يدخله يحيي، يؤثر فيه ويتأثر به، ولا أحب أن أقول هذا، يجب أن يصل إليه المشاهد، ويسعدنى أن يفسر كل مشاهد دلالات الفيلم تفسيرا مختلفا عن الآخر، فهذا يعنى أن العمل ليس فقيرا.

هل يوجد جو العمل موسيقاه بداخلك فى أثناء كتابة السيناريو؟ تستمع إليها وهى تأتى من داخلك، أم للموسيقار راجح داود رؤية تخصه؟
ليس لهذه الدرجة، المزيكا يتم تأليفها بعد الفيلم، راجح فنان مهم، يوجد المزيكا الصحيحة الملائمة، موسيقى الكيت كات من وجهة نظرى أنجح أعماله معي، لأن الفيلم موحى أولا، ثانيا لأنه تم مناقشة الشكل الذى يجب أن تكون عليه موسيقى الفيلم. فكرة الفيلم كانت الإنسان أمام عجزه، حالة أكبر من الإنسان، وهو مجتمع ما بعد النكسة الكفيف الذى لا يري، الابن العاجز عن إقامة علاقة مع جارته، والهَرم العاجز أمام الشرطة، تساءلت: «ما الآلة التى تبلور هذه الحالة؟»، فاقترح «راجح داود» الأرغن، وهى آلة مرتبطة بفكرة الألوهية نظرا لارتباطها بالكنيسة، هذا التكوين ناسب «الكيت كات». لكن ليس دائما يكون كل شيء بالعمق والوضوح المطلوب، من الممكن إعداد موسيقى مناسبة فقط، كذلك تعتبر تجربة مزيكا وأغانى فيلم «سارق الفرح» مع راجح داود من أهم تجاربه، على الرغم من أنها لم تشتهر كما ينبغي، ربما لأن التسجيل فى هذا الفيلم كان سيئا للغاية، لكن الأغانى فى هذا الفيلم تجربة مهمة للغاية.

«الكيت كات» كان سهلا فى التلقي، فهل يؤرقك ألا تصل الفكرة الكامنة وراء الأحداث فى أفلامك؟
هناك مستويات مختلفة لتلقى لأى فيلم، المستوى الأول، الإدراك، أن تعرف أن فلان يعمل فى كذا، ويحب فلانا أو يكرهه، هذا مستوى الإدراك، ويجب ألا يكون فيه أى غموض، أما المستوى الثانى فهو مستوى الفهم، وهذا المستوى بطبيعته فيه غموض، الأمور بهذه البساطة، غموض الجزئيات الخاصة بالإدراك يخيفنى أنا المخرج، أما مناقشة الفيلم فتعنى أن المتفرجين فى مستوى الفهم، والمتفرج حر، أما أن يأخذ المستوى الأول، وهو الحدوتة، ويكتفى به، أو أن يكون ممتلكا لأدوات الفهم فيعبر للمستوى الثانى، على كل حال ليست الغاية أن يفهم المتفرج، بل إن يستمتع، و«منتهى فرح المخرج أن يعبر المتفرج إلى مستوى الفهم».

فى فيلم قدرات غير عادية، تناقش موضوع أن التسليم، وعدم التفكير يمنع القدرات غير العادية لدى الإنسان؟ ألم تخف من طرح هذه الفكرة؟
تقصد الشكليات، ثمة فرق بين الدين الحقيقى والتعصب أو الشكليات، البطلة كانت تريد أن تتحرر، زوجها كان متعصبا تماما، هنا كانت محاولة التفريق بين الدين وما أطلقوا عليه أنه دين أو تدين، واثق أن جمهورى يتقبل هذه الفكرة.

ختمت الكيت كات بأغنية «يللا بينا تعالوا.. نسيب اليوم بحاله»، وفيها «يمكن تلقى الغلابة فى أول الصفوف».. فهل يمكن أن يتحقق هذا يوما باعتقادك؟ أم أنه فقط حصان خيال؟
البنى آدم إيه غير خيال وأحلام، أى تقدم هو القدرة على تنفيذ مجموعة من الخيالات والأحلام، الزراعة مثلا كانت خيال المصرى المهدد بالجوع، إذن كل شىء خيال ومحاولات تنفيذ، والإنسان يعيش على تخيله ما الذى من الممكن أن يفعله، لا أقصد الخيال الإبداعى الجمالى، بل الخيال العملى، الإنسان كان ينام على الأرض القاسية، فلما نام على الحشيش أدرك نعومته ورقته، وفكر بخياله فى محاكاة هذا، فخرج السرير، والغلابة هم الأغلبية فلم لا يحلمون؟!

حاروه : أسامة الرحيمى
الأهرام، الأحد 20 مايو/ أيار، 2018
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/652214.aspx