إبنة المجاهد المغربي الكبير عبد الكريم الخطابي تكشف تفاصيل جديدة من سيرته الخالدة

لبنان : قوى الأمن الداخلي تكشف حسابات “إسرائيلية” للتجسس و”التجنيد” عبر “فايسبوك” و”أبل ستور” و”بلاي ستور”
الكيان الكردي ومشاريع نهب نفط العراق ومياهه .. مشروع "إسرائيلي"
كان خبيراً في "النووي" و"الصاروخي" : سوريا شيَّعت العالم عزيز إسبر الذي اغتاله العدو الصهيوني في مصياف

رقية عبدالكريم الخطابي هي أكثر بنات الزعيم الريفي شبها بوالدها من حيث الشكل والإقدام وحب المغامرة، إقامتها الدائمة بمصر وزواجها من رجل أعمال مصري، وزياراتها النادرة والخاطفة للمغرب لم تنزع عنها روحها الريفية الأصيلة. رقية هي كبرى بنات الخطابي اللواتي لازلن على قيد الحياة، ولأول مرة تظهر في الإعلام المغربي للحديث عن ذكرياتها مع والدها، وعن حياتها بالقاهرة. إبنة المنفى، لاتزال بعد كل هذا العمر تحن إلى أغادير الذي لم تزره أبدا، وتخفف عنها لوعة الحنين إلى جذورها بمتابعة القناة الثامنة بالأمازيغية.

السيدة رقية عبدالكريم الخطابي، لأول مرة سيتعرف عليك المغاربة لاستقرارك بالقاهرة، حدثينا عنك وعن أسرتك الصغيرة …
هذه أول مرة أتحدث فيها لوسائل الإعلام المغربية، ويسعدني أن أتواصل مع إخواني المغاربة وأخواتي المغربيات عبر مجلتكم ” لكل النساء”. في الواقع، كنت في الماضي أزور المغرب بانتظام في العطل، لكن ظروفا تتعلق بعمل زوجي وسفره الدائم واضطراري لمرافقته، باعدت بيني وبين وطني المغرب، لدرجة أن آخر زيارة لي لبلدي كانت منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة. كنت في جولة بأوربا، وربنا أراد أن يكتب لي هذه الزيارة هذه المرة، كي أصل الرحم بأخواتي مريم وعائشة اللواتي كنت أتحرق شوقا إلى لقائهن. نحن في الأصل خمس بنات: الكبرى فاطمة رحمها الله، وأنا الثانية في الترتيب، ثم منى التي توفت مؤخرا بمصر رحمها الله، فمريم، ثم آخر العنقود عائشة. أنا متزوجة من رجل أعمال مصري، وأم لياسمين ومحمد، وجدة لأربع حفيدات، كلهم أكملوا دراستهم، ويعملون ومستقرون بمصر، أما أنا فلم يسبق لي أن اشتغلت من قبل، فأنا متفرغة لبيتي وأولادي.

ولدت بالمنفى كمريم وعائشة ما الذي تذكرينه عن جزيرة لارينيون التي احتضنت سنوات طفولتك الأولى؟
ولدت بالمنفى، وغادرت الجزيرة وأنا طفلة رفقة أفراد عائلتي في رحلة الهرب إلى مصر، لكنني عدت إلى هناك لوحدي وأنا شابة بعد وفاة والدي، كان يغمرني حنين جارف إلى المكان، وقمت بزيارة المكان الذي شهد ولادتي والسنوات الأولى من طفولتي، وتحديت الخوف الذي سيطر على أهلي من احتمال اعتقالي هناك. استقبلني أهل لارينيون بحب وترحاب، وكتبت عن زيارتي الصحف المحلية، بل وصادف تواجدي هناك زيارة قامت بها أميرة موناكو ستيفاني للمكان ولم يكتبوا عنها أي شيء، وقضيت أياما جميلة بذلك المكان الذي استعدت فيه جزءا من ذكرياتي، وكنت سعيدة لأنهم أطلقوا اسم والدي على أحد الشوارع، لأنهم يحبون والدي ويحترمون عائلة الخطابي، لدرجة أنهم نظموا حفلة رائعة على شرفي.

ماذا كان هدفك من العودة إلى المكان الذي احتضن المنفى القسري لعائلتك، وما الذي تحتفظ به ذاكرتك عن تلك السنوات؟
كنت أشعر بحنين كبير للعودة إلى ذلك المكان، وحتى يومنا هذا لاتزال لدي رغبة في العودة إلى هناك. توجهت إلى الجزيرة رفقة صديقة فرنسية، كانت أسرتها مستقرة في جزيرة لارينيون، وشجعتني على مرافقتها إلى هناك، وفعلا اصطحبتها وقضيت هناك عشرين يوما، وزرت المنزل الذي كنا نقيم به وقتها… أتعلمين شيئا… رغم كل شيء فإن الفرنسيين احترموا والدي ومن المؤكد أنهم كانوا يقدرونه، لأنهم أسكنوه في منزل فخم عبارة عن قصر فسيح، ونحن البنات ولدنا كلنا في هذا القصر وقضينا طفولتنا الأولى بين جدرانه. المستعمر كان يسعى لأن ينسى والدي كفاحه من أجل تحرير بلده، ولذلك ربما حاول إسكانه في ظروف باذخة حتى ينصرف اهتمامه لأشياء أخرى غير الثورة والمقاومة، ونكبر في أجواء بعيدة عن البيئة الريفية المغربية. ووالدي أدرك الأمر، فكان يحاول أن يربينا بنفس الطريقة التي كان سيربينا بها لو كنا ولدنا بالريف، كنا نتحدث بالريفية طوال الوقت، وتحول إلى معلم يلقننا قواعد اللغة والدين، وكان يدعونا لمجالسته كي يحكي لنا عن كل ما عاشه قبل ولادتنا. هل تتصورين أنه قام بتلقيننا ألفية ابن مالك ونحن في لارينيون، وكان يطلب منا بالتناوب بشكل يومي إعراب الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتضمنة في يافطات صغيرة معلقة في جدران بيتنا.

بماذا تفسرين زواج جل بنات الخطابي من مصريين واستقرارهن بمصر، رغم حرصه على أن تتلقوا تربية ريفية خالصة؟
كان والدي متلهفا للحظة خروج الاستعمار الفرنسي من المغرب كي يعود إلى بلده، وكانت هذه نيته. أتذكر أن الفرنسيين عندما نقلونا من جزيرة لارينيون نحو وجهة نيس، لم يكن مرتاحا لإقامتنا هناك، وحكت لنا أمهاتنا – لعبدالكريم زوجتان- أنه أسر إليهما أنه لا يمكنه أن يقبل بأن تكبر بناته فوق أرض فرنسية وأن تتزوجن بفرنسيين، لذلك فقد اختار البديل المتاح أمامه في ذلك الوقت وهي دولة مصر على اعتبار أنها بلاد مسلمة. كما يعلم الجميع، فقد لجأنا لمصر عام 1947 بعد أن عرض الملك فاروق استضافتنا، فهربنا من الأسر الفرنسي، وكان والدي طوال هذه الفترة ينسق مع حركات التحرير بالمغرب العربي من أجل تخليص الوطن من نار الاستعمار، والعودة إلى أرض الأجداد، لكن ربنا لم يقدر له أن يحقق هذه الأمنية الغالية، فمات بالمنفى. في زيارة الملك الراحل محمد الخامس لمنزلنا، حصل الاتفاق على رجوعنا للوطن، لكنه سيتوفى أشهرا قليلة من ذلك بعد إجرائه لعملية جراحية، وتغير مجرى حياتنا للأبد. توفي والدنا على حين غرة، وانقلبت حياتنا، وكان لابد من أن يتزوج كل واحد فينا لتستمر الحياة، ولأننا درسنا بمدارس مصرية، واختلطنا بالعائلات المصرية، فقد تعرفت كل واحدة من البنات في مناسبات عائلية على زوجها المستقبلي، فحصل النصيب.

هل هذا يعني أن كل بنات عبدالكريم الخطابي تزوجن بعد وفاته ؟
كلنا باستثناء ابنته البكر فاطمة، وكان بسببها في حيرة شديدة لأنها كانت بلغت السابعة والعشرين، ولم يكن بمقدوره أن ينتظر أكثر من ذلك، كان قلقا على مستقبلها دون زواج، وفي نفس الوقت كان يرفض كل من يتقدم لخطبتها، حتى لايضطر لتركها بمصر وحيدة متى حانت لحظة العودة إلى الوطن، أجل كثيرا زواجها، وفي الأخير اضطر لتزويجها.

هل كان زواجك عن حب ؟
لا… لكنه كذلك لم يكن تقليديا بالمعنى المألوف، كنت في حفلة عيد ميلاد رفيقتي في المدرسة، وكان هو عمها، أعجبني شكله وقدرت أنه شاب محترم، وتبادلنا نظرات الإعجاب وأتى رفقة أهله لخطبتي من والدي، ونال موافقة مبدئية لأنه شاب محترم، لكن والدي كان مترددا لأنه كان يرغب في أن نعود معه إلى المغرب ونتزوج بمغاربة.

وأولادك، هل لديهم ارتباط خاص بالريف وبتاريخ جدهم؟
إبني محمد يتحدث الريفية بطلاقة، لأنه لما كان صغيرا، كان يحب مجالسة والدتي والحديث معها بالريفية، ويتحاشى الحديث معها باللهجة المصرية، وسبق له زيارة الريف، وهو يحب كثيرا المغرب. وحفيدتي فريدة إبنة إبنتي ياسمين رافقتني خلال هذه الزيارة للمغرب، وأعجبت بالمغرب، وتتمنى العودة إليه من أجل قضاء فترة أطول. كل أولادي وأحفادي يتابعون تاريخ المغرب ويجمعون ما يكتب حول جدهم، وكلهم درسوا بالمعهد الفرنسي بالقاهرة، ويحاولون القيام بأبحاثهم الخاصة عن شخصية عبد الكريم الخطابي وتاريخه في المقاومة. أنا عشت في بيت جميع من به ريفيون، وكنا نتكلم باللغة الريفية طوال الوقت، سواء مع والدتي أو إخواني وأخواتي، لم تكن هناك لغة ثانية في محادثتنا، لذلك فما زلت إلى يومنا هذا حريصة على متابعة القناة المغربية الثامنة بالأمازيغية مع أولادي، ونتتبع كل أخبار المغرب، لكنني حزينة لأنني لم أزر من قبل منطقة الريف، خاصة وأن جل إخواني وأقاربي مدفونون بأغادير، فزياراتي للمغرب كانت دائما معدودة وقصيرة، وأحاول اليوم أن أحصل لأولادي على الجنسية المغربية، خاصة وأنهم يعتزمون في الفترة القادمة المواظبة على الحضور إلى بلد أمهم بوتيرة أكبر من السابق. لكن من الواجب علي أن أوضح أن المصريين يحبوننا كذلك بشكل كبير، تبنونا واستضافونا بشكل جيد، ونشعر بنفس الاحساس بالراحة سواء عندما نكون بالمغرب أو بمصر.

هل لديك إخوة آخرون مستقرون بمصر ؟
بعد وفاة شقيقتي منى لم يعد هناك أحد غيري.

ألا تفكرين إذن في العودة للمغرب والاستقرار بجوار عائشة ومريم ؟
يشرفنا أن نكون في خدمة المغرب متى احتاج إلينا، ولن نتردد ثانية في تقديم أي شيء لخدمة وطني. هل تعلمين أنني أقع في ورطة حقيقية عندما يتواجه منتخبا مصر والمغرب في مباراة لكرة القدم، أشجع وقتها دون تفكير المنتخب الوطني المغربي، لدرجة أنه قد يغضب مني ساعتها أهلي وأصدقائي، فأجيبهم: هذه جذوري وهذه بلدي .

كيف كانت علاقتك بمريم وعائشة، سيما وأنكن أخوات غير شقيقات؟
لم نشعر أبدا بالفرق، وهذا الأمر يعود الفضل فيه إلى والدي بالدرجة الأولى، فمثلما لم يكن يفرق في المعاملة بين زوجتيه، كذلك كان يعامل جميع أبنائه وبناته على قدر المساواة. وزوجة عبد الكريم الأولى أي والدتي توفيت قبل أكثر من خمسة عشرة سنة، وهي مدفونة بمقبرة الشهداء بالقاهرة، فيما زوجته الثانية – والدة عائشة ومريم – مدفونة بالمغرب.

كيف هو شعورك وأنت تحملين ثقل اسم عبد الكريم الخطابي طوال هذه السنوات؟
أحيانا أنسى بأنني إبنة الزعيم عبدالكريم الخطابي، لكن عندما أشاهد كيف يقدر الناس تاريخ والدي، فإنني أشعر بالفخر الشديد حيال ذلك، وأنا ألاحظ أن الأجانب يحترمونه أكثر من العرب، وكلهم بدون استثناء ينحنون أمام تاريخه. مؤخرا كنت مدعوة لإحدى المناسبات بالقاهرة، وتعرفت خلالها على سيدة فرنسية هي زوجة السفير الإسباني بمصر، وبمجرد أن حدثت زوجها عني، استغرب كثيرا لتواجدي بالقاهرة، واتصل بصديق له بعتبر من كبار المؤرخين الإسبان، وبعث لي الأخير بمجلد ضخم عن المقاومة الريفية ويتضمن تفاصيل ومعطيات دقيقة لم تنشر من قبل واستقاها من الأرشيف العسكري الإسباني. وهذا مدعاة لاستغرابي لأن والدي حارب هؤلاء، ورغم ذلك فهم يقدرونه جدا ويحترمون تاريخه، لأنهم يقيمون الأشخاص من خلال منجزاتهم، أما نحن فنهتم بالشكليات. والدي كان إنسانيا بكل معنى الكلمة، ولم يكن عنصريا أو متعصبا، لديه الكثير من الخصال الانسانية التي يعجب بها المرء، أخذ كل الأمور ببساطة، وكان متواضعا جدا وكريم الأخلاق. وأتذكر أن والدي كان زاهدا في الكثير من الكماليات، وكان لايرى أهمية لتغيير أثاث المنزل مثلا، كان حريصا على ارتداء جلابته الريفية البسيطة باستمرار، لايغيرها أبدا رغم أنه تلقى أثوابا من النوع الرفيع من ملوك وقادة عرب… وكان يقول لنا باستمرار : أخيركم أنفعكم للناس… وكان يوصينا بالغلابة والبسطاء من الناس. بعد مرور نصف قرن على توديعه لنا، لازلت أتساءل مع نفسي : لماذا لم نتمتع بوجوده بيننا كما يجب ؟.

COMMENTS