إنعكاس التطورات الإقليمية على الإقتصاد في لبنان

إنعكاس التطورات الإقليمية على الإقتصاد في لبنان

ديون بطاقات الائتمان لدى الأسر الأمريكية ترتفع الى تريليون دولار بفائدة باهظة!
شي جين بينغ في المؤتمر العشرين للشيوعي الصيني : “التوحيد السلمي مع تايوان” من دون استبعاد القوة
لجين الهذلول ضحية قمع الحكومة السعودية لطالبي الحرية

لا بد من التذكير، أولاً، وقبل الدخول في صلب عنوان هذا اللقاء، أن المسؤولية الأساسية عن تدهور جميع مقومات الإقتصاد اللبناني، وانعكاساتها الاجتماعية، تقع على عاتق الطبقة الحاكمة في لبنان، وليس على عاتق المحيط وتطوراته. إن تطورات المحيط ليست مسؤولة عن تراجع قطاع الإنتاج السلعي، وبناه الاحتكارية المتنامية، وعن الفساد المستشري، وتحلل دولة الرعاية والخدمات، وعن تقزيم الإدارات العامة وشلّها، كما عن نمو اللامساواة والفقر والبطالة والهجرة.

ولكن، رغم ذلك، يبقى لبنان شديد الإنكشاف على الخارج، القريب والبعيد، وذلك لصغر حجمه الاقتصادي، وطبيعة دوره الخدماتي الوسيط في محيطه. فقد بُني الاقتصاد اللبناني، منذ عهد المتصرفية، حول بيروت، التي أرادتها الدول الأوروبية النافذة لوح وثوب لها إلى داخل المشرق العربي. فكان لبنان المرفأ والمصرف والمتجر والجسر والممر لأوروبا الغربية إلى دول المشرق، كما عقدة المواصلات البحرية والجوية والبرية فيه.

واستفاد لبنان اقتصادياً من انتصارات العرب وهزائمهم، مع النأي بنفسه عن المشاركة في صراعات المنطقة، بحجة عدم استعداده للصراع والحروب، وتحت شعار “قوة لبنان في ضعفه”.

إستفاد لبنان اقتصادياً من سقوط فلسطين، من هجرات كفاءات فلسطينية، علمية وتقنية وزراعية، في حقول المصارف والمحاسبة وزراعة الحمضيات والخضار، ومن يدٍ عاملةٍ رخيصة، كما من تحويل بعض تجارة الداخل العربي، عبر ميناء حيفا، إلى مرفأ بيروت، وتحويل أنابيب نقل النفط السعودي من حيفا إلى الزهراني. كما استفاد لبنان لاحقاً من تحويلات الفلسطينيين العاملين في دول الخليج خاصة إلى ذويهم في لبنان.

واستفاد الاقتصاد اللبناني من الانقلابات العسكرية الراديكالية في سورية ومصر والعراق، من هجرات برجوازية ذات خبرات وثروات، في قطاعات المصارف والتجارة بشكل خاص. وسرعان ما انضمت هذه البرجوازيات العربية إلى الطبقة الحاكمة في لبنان.

واستفاد الاقتصاد اللبناني من إقفال قناة السويس، نتيجة هزيمة 5 حزيران 1967، حيث عززت هذه الهزيمة دور مرفأ بيروت بالنسبة للداخل العربي. ثم استفاد لبنان اقتصادياً من ارتفاع أسعار النفط بعد حرب تشرين 1973، نتيجة نمو الطلب العام والخاص في دول النفط من الخارج الأوروبي، عبر لبنان؛ كما من ارتفاع الطلب على الخبرات واليد العاملة اللبنانية الماهرة، وصناعات مدخلات البناء.

عملت الطبقة الحاكمة اللبنانية، منذ الاستقلال، على النأي بلبنان عن محيطه العربي، ورفض السوق العربية المشتركة، خوفاً من أن تؤدي هذه الوحدة الاقتصادية إلى وحدةٍ سياسية، كما اتفاق الـ”زولفاراين” بالنسبة لألمانيا، فكانت القطيعة الاقتصادية مع سورية. ولكن أحداث المحيط وجدت لها دائماً صدىً قوياً في الداخل اللبناني. فعلاقة لبنان بمحيطه عضوية وجدلية، على الصعيدين السياسي والاقتصادي. فقد رأينا الداخل اللبناني ينفجر عند كل منعطف تاريخي في المشرق العربي، في وجه الطبقة الحاكمة، كما في سنة 1958، وبعد سنة 1967، وبعد سنة 2011.

لعبت أيديولوجيا الطبقة الحاكمة دوراً كبيراً في أحداث لبنان وأزماته الاقتصادية. الدور الاقتصادي الوسيط للبنان بين الغرب الأوروبي الإستعماري والداخل العربي (لبنان “الجسر” و”المعبر”…)، وسيطرة طبقة التجار والصيارفة، ووكلاء الشركات والمصارف الأجنبية، وأيضاً الدور التعليمي والتبشيري للإرساليات الكاثوليكية والبروتيسطانتية، أنتج شوفينية لبنانية متعالية على محيطها، ومتماهية مع الغرب الإستعماري، وخادمة لمصالحه السياسية والاقتصادية. كما أنتجت هذه الثقافة مبادئ وشعارات وسياسات، مثل “قوة لبنان في ضعفه”، والتي رفضت وما زالت بناء جيشٍ حديثٍ وقوي، ولو بأسلحة مهداة له، ليبقى الجيش أداة قمع داخلي، لحماية الطبقة الحاكمة. وأنتجت هذه الثقافة شعار، “الإستتباع من طبيعة الأشياء”، كما قال ميشال شيحا، فيلسوف النظام اللبناني؛ و”لبنان إذا استقل يهتز، وإذا استُتبع يعتز”، كما قال إدوار حنين. وأنتجت هذه الشوفينية قوىً سياسيةً فاشيةً طائفية، مستتبعةً للغرب الأوروبي-الأميركي، والمخابرات “الإسرائيلية”، ارتكبت أفدح الجرائم، باسم “الدفاع عن الوطن”… أي وطن؟

أطلقت هزيمة 5 حزيران الحراك الفلسطيني المقاوم، وتنامى العداء ضد الفلسطينيين، والقتال ضدهم، وتم تدمير جميع مخيمات اللجوء الفلسطيني في المنطقة الشرقية من بيروت، كما من حول مدينة النبطية. وتمت إزالة أحزمة الفقر من حول بيروت الشرقية. أدى ذلك إلى تهجير ونزوح فلسطيني من لبنان، فكك أقنية تجارة الخضار والفواكه من البقاع إلى دول شبه الجزيرة العربية. كانت هذه الأقنية تستند إلى شبكة التصريف الفلسطينية هناك، وإلى مصدّرين فلسطينيين في البقاع. ولم يستطع لبنان بعد ذلك بناء أقنيةٍ بديلةٍ لصادراته الزراعية ذات القيمة المضافة المرتفعة، مما ألحق أضراراً بالغة بقطاع الزراعة.

رفضت الطبقة الحاكمة في لبنان تطبيق بنود “معاهدة التيسير العربية” التي وقّعت الحكومة عليها، والهادفة إلى تنمية التجارة البينية العربية، بذريعة حماية الإنتاج اللبناني من المزاحمة العربية. ولكن الحكومة اللبنانية وقّعت على شروط التجارة المجحفة جداً بحق لبنان مع الإتحاد الأوروبي، حيث فُتحت السوق اللبنانية أمام تدفّق كافة السلع الأوروبية، مع حد أعلى للرسوم الجمركية قدره 5%، في الوقت الذي بلغ معدّل الدعم للإنتاج الزراعي في أوروبا 35%، وإعطاء لبنان “كوتا” محدودة لصادراته من الزيت والزيتون والبطاطا والعنب، وذلك فقط خلال أشهرٍ تنتهي فيها هذه المواسم في أوروبا.

تقف الطبقة الحاكمة فكرياً، وحتى قبل انضمام قادة الميليشيات إلى صفوفها بعد مؤتمر الطائف، عند تخوم القرن الثامن عشر، مع الليبرالية المطلقة، معاديةً للتحديث وللإحصاء والتخطيط الاقتصادي. فقد استفزتها سياسات فؤاد شهاب، والمؤسسات الرقابية والتحديثية التي بناها الأخير، فعمدت إلى “تعقيمها” وشلّها؛ كما ألغت وزارة التصميم، وأقعدت الإدارات العامة، وأفرغتها من كوادرها، بحجة “ترشيقها”.

وبعد اجتياحٍ “إسرائيلي”- أميركي مدمّر لنصف لبنان، وحربٍ أهلية دامت عقدين، عملت هذه الطبقة على استعادة دور لبنان الاقتصادي البائد، وبعدّةٍ مهترئةٍ وفاسدة، وفكرٍ متخلّف، وكأن الزمن قد توقّف لعقدين، منتظراً عودة لبنان إلى دوره الاقتصادي في المشرق العربي. ولكن، خلال هذه الفترة، فقد لبنان مقوّمات دوره السابق، كمنتجٍ وصدّرٍ للخدمات التي يحتاجها المحيط.

كان لبنان بوابة المشرق العربي عندما كانت أوروبا، ومن ورائها أميركا، مركز الثقل الاقتصادي العالمي، ومصدراً أساسياً للسلع المصنَّعة التي تحتاجها دول العالم. وانتقل هذا المركز، تدريجياً، نحو شرق آسيا، مع نهوض الصين والهند وكوريا الجنوبية، إلى جانب اليابان. وبالتالي، أصبحت موانئ الخليج بوابة المشرق العربي من حيث التجارة العالمية.

كان التجار اللبنانيون يحتكرون، إلى حد ما، العلاقات مع الشركات الأوروبية وكبار التجار الأوروبيين. ومع ثورة الحواسيب ووسائط الاتصال وشبكات المعلومات وسياسات العولمة، لم تعد مصادر السلع وأسعارها وطلبات استيرادها في حاجة إلى وساطة التاجر اللبناني.

كانت المصارف اللبنانية وسيطاً في تحويل فوائض دولارات النفط إلى الاسواق العالمية، وأداة فتح اعتمادات الاستيراد من الشركات العالمية. وألغى تطوّر المصارف العربية، وفتح فروع المصارف العالمية في تلك الدول، الدور السابق للمصارف اللبنانية.

لم يعد مطار بيروت عقدة المواصلات الجوية في المشرق العربي، ولم يعد مرفأ بيروت عقدة المواصلات البحرية. فقد احتلت موانئ الخليج البحرية والجوية مواقع متقدمة جداً في الترتيب العالمي؛ ومن المقدَّر أن يمر في مطار دبي هذا العام حوالي 85 مليون مسافر، مقابل أقل من 7 ملايين في مطار بيروت الدولي. كما من المقدَّر أن تصل قيمة التجارة غير النفطية لدولة الإمارات وحدها إلى حوالي 320 مليون دولار بنهاية هذا العام. ووصلت أصول المصارف في الإمارات إلى 680 مليار دولار في شهر أيار 2016. ويُنتظر أن تصل التوظيفات في الصناعة في هذه الدولة إلى تريليون دولار هذا العام. ويعاني لبنان عجزاً متنامياً في ميزان تجارته مع دول شبه الجزيرة العربية، باستثناء دولة قطر. فلبنان يستورد العديد من المواد الغذائية والمصنَّعة من السعودية مثلاً؛ والهوّة بيننا وبين دويلات الخليج تتسع تدريجياً.

إن المتغيّرات العالمية والإقليمية، مضافاً إليها السياسات المالية والنقدية والاقتصادية الخرقاء للطبقة الحاكمة في لبنان، وفسادها المطلق، أدى إلى تخلّف الاقتصاد اللبناني، ودفع بلبنان إلى فخ المديونية، ونمو اللامساواة، إلى أن وصل مُعامل “جيني” Gini Coefficient لقياس اللامساواة إلى 0.85، وهو من أعلى المعدلات العالمية. وسقط حوالي 60% من اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر الأعلى، وارتفعت نسبة البطالة إلى أكثر من 36%؛ وذلك إلى جانب تدهور جميع الخدمات العامة، كالكهرباء والماء والتعليم العام.

غالب أبو مصلح، مفكر ومناضل سياسي، وخبير اقتصادي عربي من لبنان
محاضرة أُلقيت في “ندوة العمل الوطني” في بيروت، في 5/12/2016