“نكسة” حرب يونيو /حزيران 67 : عندما “خلق” الإعلام والفن “صنم” الهزيمة، و”تكالب”على تجربة عبد الناصر؟

“نكسة” حرب يونيو /حزيران 67 : عندما “خلق” الإعلام والفن “صنم” الهزيمة، و”تكالب”على تجربة عبد الناصر؟

نادين لبكي في «كفرناحوم»: «محبوبة اللبنانيين» وعقدة المخلّص
كيف نشأ الكون؟
"أنطونيو التلحمي" : الفلسطيني الذي حارب مع تشي غيفارا وفيدل كاسترو

حدثت النكسة في العام 1967، وكان لها أسماءٌ كثر، لكن العرب ووسائل إعلامهم اتفقوا على تسميتها بـ”النكسة”. عرف العدو الصهيوني “النكسة” بتسميةٍ أخرى –وهذا سنعود إليه فيما بعد- وهو حرب “الأيام الستة” ذلك أن المعارك استمرت –بحسبهم- ستة أيامٍ بلياليها فحسب؛ لكن ما يجب أن نتفق عليه بدايةً هو أن هذه الحرب ولأنها حربٌ فيها المنتصر وفيها المغلوب، علينا أن نعطيها اسمها الأقرب إلى التاريخي وهو حرب “يونيو/حزيران” 1967، أو حرب 1967 بعيداً عن أية تسمياتٍ “شعبية” أو “عاطفية”. فالتخلّص من البعد “العاطفي” للأمر يجعلنا أمام الحدث في حدِّ ذاته بعيداً عن أية “مسوغات” من شأنها إحادتنا عن تقييمها. وفي الجزء الأول من هذا المقال/الدراسة القصيرة سنحاول أن نسلط الضوء على وسائل الإعلام العربية/المصرية في تعاملها مع الحدث في حد ذاته، وكيف أنّها تقريباً “كسرت” كل ما سمي بالمهنية في تعاملاتها مع هذه الحرب قبلها، أثناءها، وبعدها. أما في الجزء الثاني فسنحاول تسليط الضوء على كيفية تناول “الفنون” وخصوصاً السينما ما حدث في تلك الحرب وتداعياتها، وكيف أثّرت تأثيراً كبيراً في الروح المعنوية والنفسية للعالم العربي.

ما قبل
في البداية، وقبل كل شيء، ليس صحيحاً ما يشاع في وسائل الإعلام العربية وخصوصاً الممولة من دول النفط أن “السيطرة” على الإعلام هي من صفات الأنظمة الديكتاتورية والقمعية والتوليتارية؛ فوسائل الإعلام يتم السيطرة عليها بشكلٍ كامل في كل الدول التي تدعي أقصى الديمقراطية. تحظى الولايات المتحدة الأميركية –مثلاً- بأكثر من ستة أجهزة متخصصة في مراقبة وسائل الإعلام، أضف إلى هذا كله وسائل إعلامٍ ممولة ومملوكة من قبل مؤيدين أشداء للأنظمة بأشكالها الحالية(روبرت مردوخ وسواه). ولأننا نتحدث عن دولٍ ديمقراطية، ينظر الغرب إلى الكيان العبري على أساس أنّه واحدٌ من أكثر الأنظمة ديمقراطيةً، وهو كما وصفه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق “واحة ديمقراطية في صحراء قمعٍ عربية”(تراجع عن المقولة فيما بعد). يعرف أي متابعٍ للشأن العبري أن دولة الكيان تقمع أي مؤسسة إعلامية/صحافية تنشر أي خبرٍ إلا بموافقة رسمية ومباشرة حول أي موضوعٍ تعتقد أنه يمس شؤون الدولة، حتى ولو كان بسيطاً (يمكن الدخول إلى موقع وزارة الإعلام العبرية وقراءة القوانين المرعية الإجراء بهذا الشأن). إذن وباختصار، ودون مواربة لا يأتي الإعلام “حراً” دون أي رقابة أو ضوابط، مهما كانت الدولة تدعي الديمقراطية أو أنّها “تسمح للجميع بالحديث فيما يشاؤون متى يشاؤون ” كما كان يحلم ويبشّر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.

تظاهرات مصر
naksa
الشعب يتفوق على وسائل اعلام النكسة
كل هذا الإيضاح من شأنه أن يسهّل علينا فكرة أنَّ الإعلام في “مصر” إبان حكم الرئيس جمال عبدالناصر كان إلى حدٍ ما “مسيطراً” عليه من قبل أجهزة الدولة، وإن كان يعيبه وبشكلٍ كبير أنه “مقادٌ” عموماً من أشخاصٍ لا يعرفون عن “حرفة” الإعلام شيئاً، وإن معظمهم كانوا من ضباط الجيش الذين لم يعملوا في أي مجالٍ إعلامي بخلاف “حبهم لكتابة الشعر والخواطر إبان شبابهم” بحسب الكاتب محمد حسنين هيكل. هذا يوضح بالتأكيد التخبط الكبير الذي وقع فيه هؤلاء حين ظهرت نتائج الحرب المخيفة في 9 أيار 1967 إلى العلن حينما أعلن عبدالناصر استقالته على الملأ، مع العلم أنَّ وسائل الإعلام المصرية مثلاً ظلت وحتى يوم ما قبل الخطاب تنشر أخباراً كاذبة من نوعية “الجيش العربي يتقدم بإتجاه تل أبيب”، و”القوات العربية تحتل النقب”(جريدة المساء)، طبعاً إضافةً إلى إلحاق أقسى الهزائم بقطاعات جيش العدو كافة من نوعية : “طائراتنا تدمّر قوة مدرعة”(جريدة المساء) وسواها. لكن ذلك لا يعني أن هذا النوع من الخطابات بدأ مع المعركة بل بالعكس، هو كان قد بدأ قبل ذلك بكثير فعنونت صحيفة الأخبار المصرية مثلاً: “عبدالناصر يعلن للعالم بعد توقيع إتفاق مع العراق والأردن في اتفاقٍ للدفاع المشترك: إننا ننتظر المعركة على أحرٍ من الجمر”، كانت هذه الأخبار هي “خبز” الإعلام الرسمي (وغير الرسمي حتى) فساد اعتقادٌ كبير بأن هذه المعركة “حرفياً” هي أقرب طريقٍ إلى فلسطين؛ لكن ما حصل كان مختلفاً كثيراً.

المعركة
عند بداية حرب أيار 1967، بدأت وسائل الإعلام العربية والمصرية تحديداً ، كونها كانت جزءاً من المعركة المباشرة –كما أشرنا، إلى ضخ كمية هائلة من الأخبار الكاذبة التي من شأنها أن تحوّل سير أي معركة، ويذكر كثيراً الإعلامي المصري الإذاعي أحمد سعيد الذي كان “صوت” المعركة من خلال “بياناته” و”خطبه” الشهيرة على “صوت العرب” (أشهر إذاعة مصرية وعربية آنذاك). كان سعيد قد بدأ عمله “التعبوي” في العام 1956، ونجح من خلال صوته “المعدني” الجذاب، وقدراته الفذة على تقديم الخبر بصورةٍ جميلة في جعله “أيقونة” إعلامية، لكن ما يعاب عليه كثيراً أنه “نقل” أخباراً كاذبة بشكلٍ كبير و”عشّم”(بالمصرية العامية) الوطن العربي بأكمله بالنصر المبين، وكانت الطامة الكبرى حينما نقل بياناً “مفترضاً” من الجيش المصري يعلن فيه النصر في الحرب، وهو البيان الذي تبيّن فيما بعد أنه كاذبٌ وللغاية. فلنأخذ هذا الجانب في تحليل أصل العمل الإعلامي: كان أحمد سعيد موظفاً في إذاعة صوت العرب ضمن “مؤسسات” يسيطر عليها “النظام” المصري الذين أدارهم –كما أشرنا في السابق- أشخاصٌ بعيدون عن حرفة الإعلام، بالتالي كان الرجل يحاول أن يعمل ما باستطاعته لإيصال الخبر كما يصله من “ادارته المباشرة”. ينقل محمد حسنين هيكل بأن الرئيس عبدالناصر نفسه لم يعلم بكثيرٍ من أمورٍ كانت تحدث حوله لأسبابٍ كثيرة من بينها أن وقته لا يسمح، وأن حالته الصحية لا تسمح، فضلاً عن كثيرٍ من “بيانات” وأخبارٍ كاذبة كانت تصله من المشير عبدالحكيم عامر (قائد الجيش المصري آنذاك) لاخفاء ما يحدث على الجبهة ودحض الهزيمة. فلماذا نستغرب مثلاً إذا علمنا مثلاً بأنَّ أحمد سعيد كانت تصله بيانات “كاذبة”؟ هل كان مجبراً على إلقائها؟ بالطبع كلا، لأنه ببساطة كان مقتنعاً (ومن سمعه وسمع صوته يمكنه التأكد أنه كانت مقتنعاً بشدة بما كان يقوله)، لذلك وهنا نضع أول ضوابط “الحرفة”: جلد الذات هو أول ما فعلته وسائل الإعلام العربية/المصرية في التعامل مع ما حدث في تلك الحرب. فعومل أحمد سعيد مثلاً على أنه “بوق للنظام” وأنه كان يعلم بكل ما حدث ويخفي على الجماهير ويخدعها، دون أن يعطى أي حقٍ بالدفاع عن نفسه بالشكل المناسب؛ فضلاً عن أن تناول الهزيمة كان “جلداً” حقيقياً للذات من خلال شيطنة كل ما حدث، شيطنة النظام، شيطنة المعركة، وفوق كل هذا سلخ كل ما له علاقة بالجيش المصري من أي جهةٍ كانت، فضلاً عن ذم العرب والعروبة.

هذا كله يقودنا إلى نقطتنا الثانية: الإجمال؛ وهي تأتي بعد جلد الذات؛ فالإجمال الذي عملت عليه وسائل الإعلام العربية هو “شمل” جميع من في السلطة والقيادة بتهمة الخيانة، وسوء الإدارة، والفساد، وكل ذلك وسواه من الصفات السيئة، واضطرار الرئيس جمال عبدالناصر إلى تقديم إستقالته على الهواء (قال أحد معاصريه منذ فترة على قناة الجزيرة في تكرارٍ لمحاولات تشويه الرجل وإكمالاً لنفس الخطط الإعلامية أن ما فعله عبدالناصر كان “مسرحية” على الهواء وأنه “ضحك” على الشعب)، فليس من المعقول أبداً أن جميع “ضباط” الجيش المصري غير أكفاء، أو أنّهم جميعاً شركاء في الهزيمة.

الشعب في الأمام
سبق الشعب المصري والعربي وسائل اعلامه بخطواتٍ عدة مع العلم أن الإعلام عادةً مطلوبٌ منه أن يكون سباقاً بخطوتين على الأقل، لكن انشغال الإعلام المصري بدورٍ ليس “دوره” جعله يقع في ذلك الفخ. هنا علينا أن نفهم أن كثيراً من الإعلاميين المحيدين والمبعدين عن وظائفهم (ويحلمون بالعودة إليها) كانوا بانتظار فرصةٍ ذهبية كهذه: كانوا يريدون أن يسقط عبدالناصر ونظامه كي يعودوا إلى “التطبيل” و”التهليل” لأصحاب الأموال (والعمل في نظام أشبه بالنظام الحالي للإعلام المصري اليوم). النقطة الثالثة التي يجب التنبيه إليها هي “القيادة الجوفاء” وطبقها الإعلام من خلال ادعائه “قيادة” الجماهير، التي مثلاً سبقته وفاجأته بنزولها إلى الشوارع ورفضها لإستقالة عبدالناصر، مع العلم أن أغلب الصحف كانت تدعو إلى الاستقالة، والتنحي، والابتعاد وسواها.

تعني القيادة الجوفاء، أن يعتقد الإعلام –خاطئاً- أنه يقود مجتمعاً في حين أنه لا يعرف عن هذا المجتمع شيئاً، هنا يمكن إعادة دراسة هذه المرحلة تحديداً لرؤية هذا الأمر وبوضوحٍ شديد. النقطة الأخيرة التي يجب الإشارة إليها هي “التضخيم الهائل” لما حدث، حتى ليظن البعض أنَّ الأمر هو “نهاية العالم”، فالطريقة والأسلوب اللذين تعامل بهما الإعلام آنذاك مع الحرب أوحى أن “مصر انتهت” وأنه لن يقوم لها قيامة (مع العلم أنه بعد سنين قلية استطاعت مصر أن تحارب من جديد وأن تنتصر حتى)، فضلا عن التهويل في كل شيء (عدد الشهداء، عدد الجرحى، المناطق المحتلة، انتصارات العدو) أي أنها فعلت تماماً ما كانت تفعله قبل الحرب وإن بطريقةٍ عكسية: في البداية كنا نضخم كل شيءٍ في الحديث عن قوتنا، بعد المعركة صرنا “نهوّل” في الحديث عن هزائمنا. وفي كلتا الحالتين أثبت الإعلام العربي أنه “مسيرٌ” مالياً فضلاً عن “هشاشةٍ” ورعونةٍ كبيرة في التعامل مع القضايا المصيرية. (يمكن مقارنة تجربة الإعلام المصري في التعامل مع حرب 1967 مع تجربة الإعلام الإنكليزي في الحرب العالمية الثانية مثلاً).

في ختام هذا الجزء يمكن التأكيد على فكرةٍ أساسية: يعتقد كثيرون أن الإعلام الخليجي والممول خليجياً قد نشأ في تسعينيات القرن الماضي حينما نشأت قناة الجزيرة، وهذا أمرٌ خاطئ بالتأكيد (ومميتٌ في آنٍ معاً) فالإعلام الممول موجودٌ منذ بداية الدهر، والنظام المصري آنذاك (وعبدالناصر تحديداً) كان لديه أعداءٌ أشداء كالسعودية مثالاً (معارك اليمن تشهد على ذلك في تلك الحقبة الزمنية)، فضلاً عن العداء الغربي الكبير له، لذلك لم يكن غريباً أن نشهد “تكالباً” إعلامياً على تلك المرحلة، ووسمها بكل هذا التضخيم المخيف.

الجزء الثاني
“المعارك لا تخاض دفعةً واحدة، كما أن الحروب الكبرى لا يمكن الفوز بها مرة واحدة فحسب!”.
لاو تشوي (قائد صيني عسكري شهير)
حدثت في العام 1967 معركةٌ كبرى بين العرب والعدو الصهيوني، حملت أسماء كثيرة، لكن وسائل الإعلام العربية “المدفوعة الأجر” أطلقت عليها مسماً ذو طابعٍ “ملحمي” وهو: النكسة. خسر العرب تلك المعركة، لكنهم لم يخسروا الحرب، ومع ذلك فإنَّ إصرار وسائل الإعلام (كما أشرت وأعيد مدفوعة الأجر) أصرت على تحويل الأمر إلى “أكبر” هزيمة ممكن أن تحيق بأمةٍ بأكملها، لقد تم تحويل هزيمةٍ يمكن “احتمالها” إلى عبءٍ ثقافي وأخلاقي وانكسارٍ أكبر من الاحتمال. وكي يتم تحويل تلك المعركة التي كان من الممكن “تفادي” تأثيراتها استغلت الثقافة والفنون لتعميق “جرح” الإنكسار هذا، فنشأ جيلٌ “متكامل” من الفنانين: الشعراء، المغنين، الكتّاب والصحافيين همه الأول والأخير: التغني بالهزيمة، شتم أي محاربٍ للصهاينة، وفوق كل هذا “كسر” الروح المعنوية لشعبٍ بأكمله.

كسرٌ في الروح
ولئن الشعوب العربية “مسكونةٌ” بالحزن في بنياها التقليدي النفسي، فلم يكن غريباً أن تشتهر الفنون العربية بالحزن أكثر من اهتمامها بالفنون “الفرحة” ومن هنا كانت لـ”الهزيمة” طعمٌ مختلفٌ عن الإنتصار.
كان الشاعر المصري الكبير صلاح جاهين(1930-1986) واحداً من أكثر الشعراء والفنانين المصريين الموهوبين في جيله، كان الرجل واحداً ممن تغنوا بحركة الضباط الأحرار المصرية (له قصيدة “على اسم مصر” الشهيرة)، ولازمها خطوةً بخطوةٍ كفنانٍ متألق، لكن لحظة الإنكسار “كسرته” من الداخل، فوقع في فخٍ نصب له “إعلامياً” وتم “مظهرة” جميع ما كتبه بعد ما سمي “النكسة” على أنّه أعظم ما كتب، فكتب قصيدة: “تراب دخان” بعد “النكسة مباشرةً . بالإضافة إلى هذا لم يمر الأمر بهذه البساطة إذ أن الفنان الكبير كسر لدرجة أنه حينما سئل لماذا قام بكتابة فيلم من نوعية “خلي بالك من زوزو”(للمخرج حسن الإمام) قال بأنّ هذا العصر هو “عصر زوزو النوزو كوانوزو” في إشارة إلى “إفيه”(أو قفلة مضحكة) من الفيلم في محاولة لوسم العصر بأكمله أنه: “عصر هزيمة وتفاهة ورياء”.

كانت الهزيمة حديث الشارع “العربي” لذلك لم يكن غريباً أن يهرع “أديب نوبل” نجيب محفوظ(1911-2006) إلى “التغني” بالهزيمة هو الآخر فأطلق كتبه المعروفة: السمان والخريف”، “ميرامار”، “الحب تحت المطر”، وبالتأكيد مجموعته القصصية “تحت المظلة”. عرف عن محفوظ انتقادته العلنية لنظام الضباط الأحرار، مع العلم أن كتبه ظلت تباع وظل شخصيةً محترمةً و”مقدّرة” من النظام المصري رغم “تظلمه” الدائم وحديثه عن “ظلمٍ” كبيرٍ تعرض له وقتها. مسرحياً كان لافتاً وللغاية أن يخرج بعض “ممثلي” الصف الثاني في مصر ليهتفوا بإسم حزب “الوفد” (الحزب ذو البعد التاريخي المصري، وإن كان غاب كلياً عن المشهد “التحرري” للشعب المصري فيما بعد) مشيرين أن الضباط الأحرار اغتصبوا السلطة التي هي في الأصل من حق الوفد، كما لو أن السلطة “تورث” أو “تعطى لأحد”!

sohof-b
صحف مصرية
انكار الهزيمة في الصحف المصرية

وللسينما الحصة الأكبر:
سينمائياً ونظراً لقيمة “القاهرة” كعاصمة للسينما العربية كان من الطبيعي أن تحظى لحظةٌ تاريخيةٌ مؤاتية مثل “النكسة” بكوكبةٍ من الأفلام تؤرخ لما حدث، بعضها كان جاداً في طرحه السؤال التالي : لِمَ وصلنا إلى هذه اللحظة؟ وماذا كانت النتائج.في المقابل جهد البعض بكل ما أوتي من قوة “لجلد” الذات وجلد مجتمعٍ بأكمله، مع التأكيد على أهمية “أن نعيش بحرية” و “أن نحب الحياة” والتركيز على فكرة “السلام” وأن “الحروب لا تنفع” وسواها من مقولات التطبيع التي كان الغرب والصهاينة يعتمدون عليها في تلك المرحلة، وهي التي أدت بشكلٍ أو بآخر لقبول جزء كبير من الشارع المصري لإتفاقية كامب ديفيد التي وقعها أنور السادات بعد ذلك بسنين قليلة.

الخطوة الأولى لنقد “المرحلة” بدت أنها فعلاً ذات أهداف “تصويبية” فتم التصويب على شخصياتٍ إنتهازئية استغلت الثورة كي تحقق مآربها، فضلاً عن المثقفين الجالسين على المقاهي والذين لا يفعلون أي شيء سوى التنظير فيما يموت الشعب بكل الطرق والوسائل. فمرت هذه الشخصيات في أفلامٍ من قبيل: “ميرامار”(1969 للمخرج كمال الشيخ)، القضية (1968 للمخرج صلاح أبو سيف)، “المتمردون” (للمخرج توفيق صالح) والذي صنع في العام 1966 ولكنه لم يعرض إلا في العام 1968 (وقد أصرت الرقابة على نهاية ينتصر فيها النظام لذلك لم يعرض الفيلم إلا بعد “النكسة” بسنة)، “العيب”(1967 مع المخرج جلال الشرقاوي). جاء فيلم “شيء من الخوف”(للمخرج حسين كمال 1969) كواحدٍ من أبرز أفلام المرحلة حيث بدأت “سياط” النقد ترتفع وتصخب، فقدم المخرج نقاشاً حول “الديمقراطية في مقابل “الديكتاتورية” وكيف أنه في لحظةٍ واحدة تقطع تلك الشعرة الهشة بينهما ويبدأ “البطش والظلم” بالحدوث. ويذكر أن الفيلم قد منع بدايةً من العرض لكن تدخل السادات شخصياً سمح للفيلم بالعرض، وكان السادات مراقباً جيداً للحالة الشعبية وتأثير الفنون عليها (بحسب كتاب سنوات الغليان لمحمد حسنين هيكل) لذلك كان من المنطقي أن يسمح بعرض هكذا فيلم خصوصاً أنه كان يريد أن يتخلص تماماً من “وطأة” شخصية عبدالناصر وعلاقته الكاريزماتية مع الشعب المصري (أيضاً بحسب هيكل).

في نفس الإطار برز إطار “الهروب إلى الأمام وبعيداً”(up up and away كما يسمى تقنياً في السينما الغربية) في السينما المصرية، أي من خلال ايجاد عدد كبير من الأفلام التي لا تتحدث في أي أمرٍ “مفيد” أو مهم، سوى أمورٍ تافهة/مسلية تهدف إلى إبعاد الجمهور المباشر عن الأحداث السياسية الجلل فظهرت أفلام مثل: شنبو في المصيدة، مراتي مجنونة، غازية من سنباط، أخطر رجل في العالم، نشال رغم أنفه، حواء والقرد، شارع الملاهي، مطاردة غرامية، بابا عايز كدة، كيف تسرق مليونيراً، للمتزوجين فقط (يمكن الاستدلال من نوعية الأسماء على “مضامين” هذه الأفلام). وكان غريباً مثلاً أن هذا النوع من الأفلام انتشر كالنار في الهشيم فشهد مثلاً العام 1968 إنتاج أكثر من 40 فيلماً مصرياً، كان من بينها فقط أربعة أفلام يمكن اعتبارها “جادة” وتحمل “رسالة” وقيمة معنوية وهي بالضبط: البوسطجي للمخرج حسين كمال، القضية لصلاح أبو سيف، قنديل أم هاشم لكمال عطية، والرجل الذي فقد ظله لكمال الشيخ.
لكن النقد القاسي للمرحلة لم يأتِ إلا بعد مرحلة ما سمي بالسلام، (أي ما بعد العام 1975) فجاء فيلم “الكرنك” (للمخرج علي بدرخان وللكاتب نجيب محفوظ) الذي تناول “بقسوة” بالغة الظلم الذي تعرض له “المواطن العادي” إبان حكم “عبدالناصر”، فيسخر من كل الأفكار التي جاءت بها الثورة، ويحيلها إلى “الهشيم” متعاملاً مع “النكسة” هذه المرة على أساس أنها “الخلاص” الذي سمح للناس “الأحرار” بالخروج من تحت عباءة الظلم. يشترك في هذا الأمر فيلم “احنا بتوع الأوتوبيس”(1979 للمخرج حسين كمال) ويتناول ذات المرحلة، وبذات اللغة السينمائية/الثقافية في إعطاء “النكسة” بعداً إضافياً هو أنها “نتاج طبيعي للظلم الشديد الذي كان الشعب يعيشه” دون أي إشارة إلى منجزات الثورة المصرية (تأميم قناة السويس، بناء السد العالي، مساعدتها في حروب التحرير العربية في الجزائر مثلاً وسواها).
باختصار لم تحظ لحظةٌ “تاريخية” قط مثلما حصلت “النكسة” على إهتمام، حيث يمكن إجراء دراسة شاملة وملاحقة كل الأعمال الفنية والثقافية التي كتبت حولها فيظن “القارئ/السامع/المشاهد” أن هذه النكسة كانت آخر الكون وأن “مصر” والعالم العربي “قد فنيا” تماماً بعدها، هذا دأب الإعلام “المدفوع الأجر” دوماً: يخلق من اللاشيء شيئاً، يجعله صنماً، ويطلب من الجميع أن يعبدوه.

COMMENTS