تحيةً إلى فُقراءِ فرنسا : “في أهمية التحليل النقدي للرأسمالية”

Brexit : العرب بين تفكك أوروبا وصعود أوراسيا …
غارة أمريكية على مطار الشعيرات : يريدها “الوكلاء” فاتحة حرب، وترامب “بيزنس مان” يحمل مسدساً؟
القواعد الأميركية في لبنان : الوظائف والأهداف و… النتائج؟

تواصل حركة "السترات الصفراء" تنظيم التظاهرات الأسبوعية في فرنسا، احتجاجاً على السياسة الاجتماعية ـ الاقتصادية للرئيس إيمانويل ماكرون. وتحدث الإعلام الرسمي عن تراجع عدد المشاركين في التظاهرات، عمَّا كان عليه عند بداية الحركة قبل شهر ونصف[1].

لكن خبراء متابعين نسبوا إلى استطلاعات الرأي "تأييد نحو 70 بالمئة من الفرنسيين لمواطنيهم المحتجين. وهذا التأييد اضطر الرئيس ماكرون إلى إبداء تراجع ما حيال مطالبهم"[2]. وهذا التباين لا يغيِّبُ عن ناظرينا أهم إنجاز حققته هذه الحركة الإجتماعية، غير المنظمة، والمركبة من اليسار واليمين، وهو إعادة طرح "المشكلة الكبرى، [و] هي علاقة رأس المال بالعمل"[3] التي أَشْقَتِ "الإنسان الحديث" في كل العالم.

تُخْرِجنا هذه الحركة إلى الواقع السياسي ـ الفكري الجديد، من الواقع السائد "طيلة العقود الثلاثة الماضية. حيث كان هناك كلمة تم إبعادها عن النقاشات والحوارات العامة. وهذه الكلمة هي: الرأسمالية"[4]. ونقول "إبعادها"، بمعنى التستر على الخراب الإجتماعي الذي يحدثه النظام الرأسمالي، عبر منظومة تكنوإعلامية تنهك الوعي الإجتماعي بمفاهيم مُضَلِّلَة[5]، عن دور "قوى السوق"، "الهيئات الإقتصادية"، "قطاع المال والأعمال"، "المستثمرين الأجانب"، "الجهات المانحة"، "المسؤولية الإجتماعية للشركات" ألخ.

جاءت "السترات الصفراء"، الآن، لتزيل حجاب السُّتْرِ عن تَغَوُّلِ قوى رأس المال على حقوق الأكثرية العاملة. إن نجاح الحركة في حشد (بعض) قوى العمل ودفعها إلى ميدان المواجهة مع الرأسمالية، مؤشر على تحرر الوعي الإجتماعي ـ جزئياً ـ من تلك المفاهيم المضللة، لتعود "العلاقة بين رأس المال والعمل" إلى الشارع، حيث مسرح السياسة الفعلي، حيث روافع التحليل النقدي للرأسمالية.  

الرأسمالية والفقر والإفقار
يصدر زخم "السترات الصفراء" التي انطلقت ضد ضريبة الوقود، من الأساس الإجتماعي العميق للشرائح الفقيرة التي أنهكتها السياسات الرأسمالية النيوليبرالية. يتحدث الباحثون عن أن نسبة ضحايا الفقر النقدي في فرنسا تبلغ نحو 13 بالمئة من السكان. وأن هؤلاء لا يشعرون بالأمان الإجتماعي ويرون المستقبل قاتماً أمامهم[6]. وهذه الأرقام التي توضح حجم "الفجوة الإجتماعية" بين فئات المجتمع الفرنسي العليا والوسطى والدنيا، تفسر قلق ضحايا الفقر وتفرض خروجهم إلى الشارع[7].

إن قرار الرئيس ماكرون بـ"تعديل ضريبة الثروة لتقتصر على صفقات الأصول العقارية التي تزيد قيمتها على 1.3 مليون يورو، بدلاً من أن تشمل مختلف الأصول من المجوهرات إلى اليخوت والاستثمارات"[8] كما كان الحال قبل القرار، ليس خطأ رئاسياً، بل محاباة حكومية لمصالح الرأسماليين، وسبباً في إفقار الفئات المنتجة واستضعافها.

لاحظ فرنان Braudel / برودل في سِفْرِه الكبير : "الحضارة والرأسمالية" (1979)، أن هذه المحاباة مزمنة في فرنسا. يقول "إن سياسة الحكومات تهدف إلى القضاء على المؤسسات الصغيرة. وقد أنشأت الدولة احتكارات"[9]. ويضيف "إن مؤسسات القطاع الخاص الكبيرة، هي التي تلقت وتتلقى القروض والمساعدات التفضيلية من الدولة، بينما صدرت الأوامر للبنوك المانحة للقروض بالتضييق على المؤسسات الصغيرة"[10].

تعبر "السترات الصفراء" عن مدى انتشار الفقر والشعور بوطأة الإفقار في المجتمع الفرنسي. وبالطبع، فإنه سبق توسع "الفجوة الإجتماعية" في عهد ماكرون. إن حكومة الرئيس السابق نيقولا ساركوزي (2007 ـ 2012) هي التي جمدت مؤشر أجور موظفي القطاع العام، ابتداءً من عام 2010، من دون تجميد الأسعار، طبعاً. وأدى القرار إلى تراجع القدرة الشرائية للموظفين بنسبة 8 ـ 10 بالمئة حتى عام 2016، ما حملهم على إعلان الإضراب، مطالبين حكومة الرئيس السابق فرانسوا هولاند (2012 ـ 2017) بإلغائه[11].

ينتقد بعض الباحثين الماكرونية، من منظور كينيزي. وبرأيهم فقد "تخلى الرئيس الفرنسي عن سياسات يسار الوسط، التى تهدف إلى دعم أبناء الطبقة الوسطى، وتقييد العولمة"، أي السياسات النيوليبرالية المُنَفِّرة للمزاج الشعبي. وبدلاً من ذلك، حسب رأيهم، "تبنى ماكرون أجندة يمين الوسط التي تغير سياسات سوق العمل، والضرائب، والاستثمار، من أجل تكييف فرنسا مع العولمة الرأسمالية"[12]. هذا المنظور الماضوي، لا يتقدم بالتحليل النقدي للرأسمالية في المرحلة الراهنة. لأنه يأمل بإعادة إحياء نموذج كينز الرأسمالي أي "دولة الرعاية" الفرنسية أو الأوروبية. وهو نموذجٌ ميِّتٌ تقريباً.

كان "النموذج الكينزي" قد تهتك مع ارتفاع الموجة الرأسمالية النيوليبرالية، التي اجتاحت النظام الرأسمالي ـ العالم، مع ظهور تحالف حكومتي الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان (1981 ـ 1989) ورئيسة الحكومة البريطانية السابقة مارغريت تاتشر (1979 ـ 1990). وقد جعل هذا التحالف السياسي ـ الأيديولوجي المعادي لقوى العمل، من البرنامج النيوليبرالي "إنجيل" السياسات الإجتماعية، للحكومات الرأسمالية المركزية والطرفية على السواء. وبعد انهيار النظام الإشتراكي في الإتحاد السوفياتي (1917 ـ 1991)، حلَّ نموذج التطرف النيوليبرالي على أنقاض "نموذج كينز"، مع نشوء النظام الدولي الأحادي القطب، وانقلاب الظروف السياسية والتكنو ـ إقتصادية والديموغرافية الدولية، وتسارع عمليات العولمة في الإقتصاد السياسي للنظام الدولي.

حركة محلية ذات أبعاد عالمية
تكاد "السترات الصفراء" أن تكون نعياً متأخراً لـ"الكينزية". وقد ذكَّر التحليل النقدي للرأسمالية بـ"أن كينز لم يقترح على نفسه، أن يقدم نقداً شاملاً للرأسمالية. بل إنه لم يهتم [أصلاً] بالأسئلة المتعلقة بطبيعة الرأسمالية، تاريخية أو ما وراء تاريخية، ولا بالإستلاب الإقتصادوي، ولا الإستقطاب العالمي. وبوصفه إنكليزياً لا يعترف إلا بفلسفة تجريبية صارمة، كان اهتمامه يتركز على إدارة النظام الذي يعيش فيه. وقاده هذا الإهتمام إلى توجيه نقد جدي للنسخة الليبرالية من الرأسمالية"[13].

لقد جردت "السترات الصفراء" الرأسماليات المركزية من الـ Prestige. قبل دوي أصوات المحتجين في "جادة الشانزيليزيه"، كان الإنطباع الأكثر شيوعاً عن خريطة الفقر العالمي أنها أفروآسيوية. لكنه من الآن فصاعداً، سيتبدل. فالحيز المخصص على هذه الخريطة لمجتمع فرنسا ومجتمعات الدول الإمبريالية الأخرى ليس ضئيلاً. في بريطانيا صدر تقرير لجنة تحقيق برلمانية في عام 2014، حذر من تفاقم الفقر فيها. وقال أنه "يوجد عندنا أشخاص لا يملكون ما يكفي لشراء الطعام". دون إعطاء أرقام. وكشف التقرير أن الجوع يدفع الفقراء إلى ارتياد بنوك الطعام من أجل الحصول على ما يسد رمقهم[14]. كما صدرت دراسات صيف عام 018، تؤكد أن الفقر المدقع بدأ ينتشر في المدن الإنكليزية الثرية وبعض مناطق لندن، رغم تراجع معدل البطالة[15].

أما في إيطاليا، فقد انخفضت مستويات المعيشة في كثير من الأسر الإيطالية، منذ الأزمة المالية التي اجتاحت الإقتصادات الأورو ـ اميركية، قبل عشر سنوات. وأصبح حوالي 5 ملايين شخص يعيشون، حالياً، في فقر مدقع. وما بين عامي في الفترة 2009 ـ 2012، انخفض الدخل الحقيقي للفرد بشكل حاد. وهو لا يزال دون مستويات ما قبل الأزمة. وتخفي بيانات الدخل الحقيقي (والثروة) لدى الأسر الأكبر سناً، كآبة الوضع بالنسبة للأسر الشابة والمتوسطة العمر[16].

وفي الولايات المتحدة الأميركية، حمل تقرير فيليب Alston / الستون مقرر الأمم المتحدة بشأن الفقر، الذي صدر في شهر حزيران الماضي، أحدث معلومات عن كتلة الأميركيين البائسين. إذ "يعيش نحو 41 مليون أميركي، يشكلون نحو 12,7 بالمئة من السكان، في فقر. بينما يعيش 18,5 مليون أميركي في فقر مدقع. ويشكل الأطفال واحدا من كل ثلاثة فقراء أميركيين. في حين أن الولايات المتحدة لديها أعلى معدل لفقر الشباب بين الدول الصناعية"[17].

تعبر حركة "السترات الصفراء"، اليوم، على نحو ما، عن غضب ضحايا "قوى السوق" الرأسمالية العالمية. فقد طرحت "علاقة رأس المال بالعمل" مجدداً، في إحدى الدول الرأسمالية المركزية في العالم، التي خرج منها الوعي الإشتراكي "العالم الحديث"[18]، أي فرنسا. كما يبدو الوزن السياسي ـ الديموغرافي للحركة مرتفعاً، إذا أدخلنا في الحسبان مجموع أعداد كتلة الفقراء الذي يتجاوز الـ 60 مليوناً في الدول الرأسمالية المركزية الأربع[19].

هذه القوة التمثيلية وإن كانت ذات أبعاد فكرية ـ معنوية، راهناً، إلا أنها، في التحليل النقدي للرأسمالية، تمنح هذه الحركة المحلية ذات الأبعاد العالمية، قيمة فكرية ـ سياسية تتخطى ما لحركات احتجاج أخرى، وقعت في تركيا واليونان ورومانيا أو غيرها. والسبب جليّْ، فهي تكشف للمواطنين عن أن تأزم تناقضات النظام الرأسمالي في مراكزه الأكثر تطوراً، هو حقيقة سياسية فعلية، وليس مقولة أيديولوجية وهمية.

هكذا، نفهم، إذن، لِمَ يرتجف النيوليبراليون المتطرفون من أمثال هنري برنارد ليفي، من حركة "السترات الصفراء"، ويكيلوا الإتهامات لأعضائها بالتطرف اليميني واليساري[20]. إن شعارات المحتجين وحشودهم الصاخبة على "جادة الشانزيليزيه"، قد فَزَرَتْ غرورهم السياسي في الصميم، وذهب بنشوة الإنتصار التي أسكرتهم، بعد زوال النموذج الإشتراكي السوفياتي. لقد سكنتهم، حينئذٍ، أوهام "نهاية التاريخ"[21]، حتى ظنوا بأن الرأسمالية، لا سيما الولايات المتحدة "القوة العظمى الوحيدة في العالم، هي أبدية على صورة الله"[22].

هيئة تحرير موقع الحقول
‏الثلاثاء‏، 24‏ ربيع الثاني‏، 1440، الموافق ‏01‏ كانون الثاني‏، 2019
أول تحديث للنص الساعة 10:03  


[1]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

 

 

 

 

[2]ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

[3]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

[4]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[5]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع. 

[6] ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[7]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.. 

 

 

 

 

 

[8]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع. 

 

 

 

 

 

[9]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

 

 

 

 

 

[10]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

[11] ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

 

 

 

 

[12] ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

 

 

 

 

[13]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

 

 

 

 

 

[14]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

 

 

 

 

 

[15]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

[16] .ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[17]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع

[18]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

[19]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

 

 

 

 

[20] ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[21]  ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع.

[22] ملاحظة : يجب الحصول على إذن محرر الموقع لقراءة المراجع