أيامٌ في الجزائر: جمْرٌ وأمل..!

العقيدة العسكرية التركية الجديدة …
“البنك الدولي” للشذوذ
CNN: الإمارات تدخلت في انتخابات الرئاسة الأميركية عبر وسيط من أصل لبناني

خاص ـ الحقول / هبطت طائرة “الخطوط الجوية الجزائرية” بسلام فوق أديم مطار “هواري بومدين” بالجزائر العاصمة، فتنسمتُ “عطر الأحباب” واستذكرتُ الأيام الخوالي أواسط الثمانينات، إذْ قضينا أعواما في ربوع جبال الأوراس الشمّاء، عند “الهضاب العليا” بالشرق المجاهد وعلى حواف الجنوب، ثم على الساحل المتوسطي بالشمال، ما بين جامعتيْ “باتنه” و”عنّابه”، متنقلا بين الحين والآخر إلى قسنطينه وبسكره و”سوق اهراس”. وكنا ذهبنا في أوقات متقطعة، خلال فترة 1997-2002 ، إلى مدينة الجزائر وإلى الجامعات في كل من باتنه مرة أخرى وسكيكده وسطيف، لأعود ثانيةً إلى سطيف في 2009. وها نحن في أواخر 2014 نعود إلى “العاصمة”، وضاحية “سيدي فرج” بالذات، للمشاركة في ندوة لمنظمة العمل العربية حول تشغيل الشباب في المنطقة العربية. فيا لها من ذكرى وذكريات..!.

ومن “سنوات الجمر” إبّان حرب التحرير الوطنية العظمى (1954-1962) إلى “العشرية السوداء” إبّان “الاقتتال الأهلي” (1991-2000) وما بعدها، مضت الجزائر المجاهدة تضمّد الجراح وتطوي الأحزان، وتتقدم بالأمل نحو مستقبل زاهر بإذن الله.

وكنا تركنا الجزائر أول مرة في صيف 1987، بعد أن وقعت صدمة انخفاض أسعار النفط في 1986 لتؤشر نحو ركود عميق في العالم النامي عامة، والبلاد المنتجة للمواد الأولية والطاقوية بصفة خاصة، بما فيها الجزائر، مترافقا ذلك مع تفاقم أزمة الاستدانة في (العالم الثالث) منذ إعلان المكسيك “عدم القدرة على الدفع” عام 1985. وأعقب ذلك صعود “صندوق النقد الدولي” إلى سدّة (الإدارة المالية) لعموم العالم النامي، وكيلا عن مجموعة الدول الصناعية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.

وكانت الجزائر قد انتهجت ما بين 1965 و1978 في ظل قيادة بومدين- بعد فترة التأسيس الأولى لأحمد بن بيلا1963-1965- منظومة سياسات هادفة إلى تحقيق (الكفاية والعدل)-على غرار التجربة المصرية الناصرية في الخمسينات والستينات- وذلك عبر الدور القيادي للدولة، واتباع المنهجية التخطيطية، و العمل على بناء قاعدة صناعية عريضة وعميقة، من خلال مجموعة من (المركّبات)، أو “المجمّعات” الصناعية الضخمة وفق النموذج المسمى بنموذج “دي برنيس”- بإعطاء الأولوية لتصنيع وسائل الإنتاج، قبل “سلع الاستهلاك”، ومن أهم رموزها (مركّب الحجّار) للحديد والصلب قرب مدينة عنابة، إضافة إلى الصناعات البتروكيماوية القائمة على “المحروقات” النفطية و الغازية، وغير ذلك.

وبعد وفاة بومدين، وخلال الفترة الانتقالية بين 1978 و1987 ، ودّعت الجزائر المرحلة السابقة بقضّها وقضيضها، كما يقولون، لأسباب متعددة معقدة، وأخذت تمضي نحو اقتصاد قائم على التوسع الاستهلاكي والاستيرادي، وانصرفت عن المجمعات الصناعية الكبرى، وعن “التخطيط الوطني الشامل”، مع ميل إلى الاعتماد على “قوى السوق” و “المشروعات الصغيرة والمتوسطة”.

وبعد أن وقعت الصدمة البترولية لعام 1986، وفي سياق محاولات مواجهة الركود وأزمة الديون، فإن الدول النامية-ومنها الجزائر– و بضغط مباشر من مجموعة الدول الصناعية الدائنة، و وكيلها “صندوق النقد الدولي”، اتبعت سلّة سياسات موجهة نحو استعادة توازن الحسابات المالية، من خلال النهج الانكماشي للاستثمارات والضغط على الواردات وتقييد النفقات الاجتماعية للدولة، وتفكيك القطاع العام. وكان كل ذلك على حساب كل من القطاع الصناعي والمؤسسات العامة والغالبية الاجتماعية محدودة الدخول.

وقد ترافقت السياسات المذكورة، مع تتابع أحداث “الاقتتال الأهلي” في الجزائر، خلال التسعينات، مما أدى إلى آثار اقتصادية واجتماعية شديدة. ولكن محاولات استعادة السلم الأهلي، و طرح “مبادرة الوئام والمصالحة” 1999-2000، ثم بدء دورة انتعاشية للاقتصاد العالمي وارتفاع أسعار النفط منذ 2003، كل ذلك قد دفع نحو العمل على استعادة السياسات الاقتصادية قدرا من التوازن لتعيد النظر بعين الاعتبار إلى بعض القضايا التنموية والتخطيطية. غير أن ما جرى قد جرى، حيث يمكن وصف ما وقع من تغيرات هيكلية للاقتصاد الجزائري، وللاقتصاد المصري أيضا، خلال العقود الأخيرة، ومعهما اقتصادات عديدة في (العالم الثالث السابق) بأنها عملية “نزع التصنيع” De-industrialization ربما باستثناء منطقة شرق آسيا عموما وشطر من أمريكا اللاتينية. تلك عملية ارتدادية بحق، خنقت الأمل التنموي في مصر خنقا، وجعلت العثور على نقطة البداية الجديدة محفوفة بالمخاطر وبعدم اليقين، وهو من بين أسباب الموقف المعقد الذي أخذت تواجهه مصر في فترة مابعد الثلاثين من يونيو2013. و لا مخرج من المأزق إلا باكتساب النهج التصنيعي-التخطيطي في أفقه الاجتماعي، مع توسيع تدريجي لهامش المشاركة الشعبية، في وجه تحدّي (الانهيار المؤسسي) المؤطّر من قبل بعض القوى المختلفة!

وعود على بدء، مع نزولنا على أرض الجزائر المجاهدة منذ أيام، ومع انخفاض أسعار البترول مرة أخرى، وجدنا عجبا.. فهاهي دورة انكماشية مرتقبة للاقتصاد الجزائري –وربما العالمي- قد تطل بوجهها الكالح مرة أخرى. ولا حديث للجزائر هذه الأيام إلا عن انخفاض أسعار البترول، وما يمكن أن يحمله من آثار سلبية على المسار التنموي، و تجدَّد حديث “التقشف” و ضغط النفقات، وتقليل فاتورة الواردات، برغم أن الجزائر تتمتع بوفرة مالية نسبية، ولو من خلال احتياطيات نقدية مقدرة بنحو مائتي مليار دولار. وذلك بعكس الحالة المصرية الراهنة، والتي سوف تستفيد، برغم ذلك، من انخفاض أسعار البترول والغاز العالمية، كون مصر أصبحت بلدا “مستوردا صافيا” للنفط والغاز..! فيالمقلّب الأحوال!.

ولنوجز ما أردنا قوله في المجال الاقتصادي بأن التحدي الرئيسي للدولتين-مصر والجزائر- في اللحظة الراهنة هو ضرورة مواجهة الإرث السلبي لعملية (نزع التصنيع وتفكيك القطاع العام والتخلي عن الوظيفة القيادية للدولة). أما على الصعيد الإيديولوجي-السياسي فإن هناك تحديات أربعة على أقل تقدير: أولاها ضرورة تبنّي استراتيجية مستقبلية “مزمّنة”، من أجل التغلب على حالة “الحيرة العميقة” لدى قوى الحكم والمعارضة في آن معا. وثانيتها مواجهة إرث تفكك –نكاد نقول (تفسخ) النخبة “المدنية” وتدنّي قدرتها على الفعل المجتمعي الحقيقي. وثالثتها تضخم وتكلس البيروقراطية العليا في كل من الدولتين، واندماج ما يمكن تسميته “رأس المال البيروقراطي” المنتفع من عقود الدولة ومشترواتها، مع الفئة ذات الميول (الكومبرادورية) -بتعبير سمير أمين- المشتغلة في أعمال الوساطة والسمسرة محليا وخارجيا، والمتشابك مع عناقيد الفساد “المعشّش”- وما لنا لا نقول “المؤسَّس”- في عديد المواقع. ورابعتها السير قدما على طريق (الوئام والمصالحة).. وياله من ملف شائك حقا، مع الأخذ في الاعتبار أن الجزائر إنما شرعت في السير على هذا الطريق، بعد خمس سنوات على الأقل من بداية المواجهات المسلحة، أي في 1996 تقريبا، ثم غذّت السير على ذات الطريق منذ 1999 وذلك بعد أن تيقنت من بلوغ الأطراف المعنية-وخاصة جماعات “الإسلام السياسي المسلح”- نقطة الإعياء التي لا مزيد من بعدها لمواصلة العنف. وما تزال في جعبة المسافر كلمات كثيرة أخرى!

COMMENTS