الدراما السورية: "حَكَم الهوا" على "اهل الغرام"

الدراما السورية: "حَكَم الهوا" على "اهل الغرام"

العدد 50..روائع مقتنيات مكتبة الإسكندرية في تذكاري «ذاكرة مصر» احتفالا بـ 20 سنة على الانطلاق الجديد
أكرم حسن منذر ينشر روايته الأولى : “نزيف السنديان” 
"زيارة غير عادية" لرئيس الصين إلى روسيا

حافظ مسلسل اهل الغرام، بخماسياته على مستوى درامي عالي وشيّق في موسمه الرمضاني 2017. لم يتأثر "اهل الغرام" بتراجع الدراما السورية والتي تعود الى عوامل عديدة ليس اقلها انعكاس الحرب الدائرة منذ ما يقارب السبع سنوات على هذه الصناعة الثقافية وعلى صنّاعها.

انتهج " اهل الغرام" في موسمه الرمضاني الفائت (2017)، اسلوب الخماسية، لكل حكاية من حكايا الغرام. كل حكاية تتوزع على خمس حلقات. اول خماسية حملت عنوان " الغرام المستحيل" وفيها نلحظ نقاشا تجديديا حول نمط العلاقات العاطفية الراهنة والنظرة اليها، وفيها صور متنوعة عن الحب كقيمة اجتماعية وعن التقدم بالعمر وعن اللحظة المعاشة وفيها ايضا دعوة للتأمل بكل ما يحيط بنا. هنا نرى نموذج السوري والسورية اللذين لا يراهما اللبناني في حياته اليومية من خلال ظاهرة اللجوء. نرى هنا النخبة السورية اذا جاز التعبير من الطبقة الثرية التي وجدت لنفسها مهنتها في بلد اللجوء. نحن امام طبيب تجميل سوري يعمل في لبنان، يملك عيادة ضخمة، منزل فاره من طابقين في افخم واغلى مناطق بيروت.

هذه ميزة الدراما السورية اذ ان طروحاتها دائما راهنة وآنية وواقعية مرتبطة بأناس يعيشون اليوم والآن. والمكان دائما معلوم وحاضر، حتى المخفر عندما بلغت الام عن غياب ابنها كان مكانه معلوما في لبنان (جونيه).

 نجد ان " اهل الغرام" عاشوا رغم الحرب وبقي الغرام متقدا رغم النزوح الى بيروت. في هذه الخماسية طروحات متشابكة ومعقدة وكثيرة ولعلها تشبه ظروف الحياة في لبنان، التي لم ينج فيها الفتيان من المخدرات في المدارس، الى اشكالية الصداقة بين المرأة والرجل مرورا بالأغنياء السوريين وعلاقتهم بالحرب الدائرة في بلادهم: الاهتمام بالنازحين السوريين في لبنان الذي لم نره نحن في لبنان على ارض الواقع وكأنه نوع من الحث او الدعوة على هذا الفعل وكي لا يكون مجرد إراحة ضمير امام مشهد النساء والاطفال في شوارع وازقة العاصمة يتسولون اللقمة والامان. لعل المبادرة التي تقوم بها احدى السوريات وهي رسامة مصابة بداء السرطان لمساعدتهم، هي ما نحتاجه في الحقيقة.

في اهل الغرام امرأة تغرم بالطبيب الذي ما زال يتذكر عيادته في ساحة المرجة في دمشق، الذي يرفض الزواج" لأنه يشعر انه طير حر، وفي الزمن الرديء، اخاف ان اورّط اولادي معي" ويكثر من علاقاته مع النساء، ويحب الاستماع الى ام كلثوم وفيروز ومشاهدة قناة الجزيرة لمتابعة اخبار الحرب. فتقدمه الى الوسط الاجتماعي الثري وتفتح له طاقة القدر وتكثر اعماله ويذاع صيته، " اذ ولا واحدة عاجبها شكلها"، الى ان يتخلى عنها فتقرر الانتقام قائلة له انا من زرعتك في رؤوس الطبقة المخملية، فتحيك له قضية بعنوان خطأ طبي تجميلي فتغرّمه اللجنة الطبية في المحكمة دون سحب شهادته. الا ان علاقة صداقة تربطه بأرملة صديقه اللبنانية الاصل والتي كانت مغرمة به ايام الصبا، ما يجعل ابنها الفتي يغار عليها، حين يكتشف رسائلها القديمة بينهما ويسألها لماذا احتفظت برسائله؟ فتختلط عليها الاجابة. رغم الحرب لم تنس ان تحمل هذه الرسائل من الشام حيث كانت تقيم مع ولدها وتأتي به الى بيروت مع ماضيها.

وفي ذلك تناول مغرٍ للعلاقة بين الرجل والمرأة التي لا تؤمن بها المرأة، في مقاربة عصرية وفي مقاربة لا تخلو من تمجيد الماضي الذي يسكننا وهو فعلا يمثل الحقيقة الوحيدة التي بين ايدينا، الحاضر مجهول كما المستقبل البعيد: متعة ان نستمع الى الصديقان في تناول ذكرياتهما ايام الطفولة في الشام وما في الامر، من ذكر للأمكنة والاسماء وحكايات منها رواها الطبيب عن بائع العطور في الصالحية الذي لم يتزوج، لكنه لما مات اجتمعت النسوة من حول جثمانه: انه حبيب ابو وردة الذي كان يحب عبد الحليم وكان طريفا يحب الناس ويهب امواله للمحتاجين، فرششن العطور التي صنعها لهن على جثمانه. ولا تزال تلك الرائحة عالقة في انفه. لم تخل الخماسية من اشارة للمصاهرة بين اللبنانيين والسوريين ووضع لبنان كملجأ اول للنخبة السورية المثقفة والناجحة.

لا تغيب فيروز بأغانيها الدافئة عن اي مشهد من خماسية " الغرام المستحيل" هذا الغرام الذي يجمع الطبيب رفيق (جمال سليمان) بالرسامة السورية المصابة بالسرطان (كندة علوش) والتي تجمع منه التبرعات ومن اصدقائها ومعارفها الذين لا تخجل احداهن من القول "خذي ما تشائين لا اريد ان ارى. لا عين ترى ولا قلب يحزن"، للاهتمام باللاجئين السوريين لاسيما الاطفال منهم.

اما الحرب فأتت في مقاربة مختلفة دون العودة الى اتهامات واسباب وكأنها نقاش فلسفي وتحليل سياسي استشرافي: "الحروب دائما تحدث في بلادنا منذ 400 سنة ونعود ونبني من جديد وننسى" و"السلم استراحة بين حربين". كما عكست هذه الخماسية انانية الفرد التي يحاول البعض اخفاءها خجلا ممن حولهم: "ليس ذنبي انني خلقت في هذا البلد وبهذا الزمن"، " اريد ان اعيش، اتيت مرة الى الحياة" و"الحرب قد لا تنتهي بعشر سنوات". "كل الشعوب تمر بالحروب لتمتلك الوعي: قلنا شهران او ثلاث ونعود". "عندما تهدأ الاوضاع سأعود الى الشام، الهروب افضل من وجع القلب". و"لكن هذه قصتنا ولا نستطيع ان نهرب منها". "وكأن الحرب لا تعنيك كأنها في الاسكيمو… النقاش عن الحرب يجب ان يكون بين العقل والمشاعر". "الوجع على الناس طريقة للحفاظ على التوازن". "في الحرب تشتت لعائلات اصبح كل منا في مكان، في الحرب خطف وقصف ونقص في متطلبات الحياة".

إعتمد  المخرج على تصوير مشهد الطريق بشكل ملفت وكأنها مسار للحرب السورية. طريق فيها السوريون مرغمون على المضي حتى النهاية. كما لاحظت ان بعض الممثلين السوريين يلقون التحية بالفرنسية وهذا تغير، له علاقة بالمكان اي لبنان والتأثر بعاداته.

وفي " الحب المستحيل" اشارة الى اهمية الفنون والرياضة كأسلوب يقي الاولاد من الانحراف نحو المخدرات مثلا.

رندى ارملة صديق الطبيب التي هربت من الحرب بولدها الوحيد، في روتينها اليومي استماع لأخبار الحرب وحضور للأفلام القديمة، هي في حالة حنين دائم الى الماضي حيث لا حرب. نقاشاتهما طويلة وشبه يومية هي ملاذه في فشله وضعفه وهو ملاذها في محنتها :حين اختبأ ابنها عند بنت الجيران عقابا لأمه التي كانت تحب يوما الطبيب، وشريكا لهمومها: يبثها شوقه للشام ولعيادته ولأغراضه، تبثه الشعور بالوحدة وكيفية مقاربتها للحل اذ تقترح عليه ان يتزوج اليوم كفرصة طالما يعيش حالة حب كي لا يمرض و"تأتي من تتزوجك من اجل فلوسك"،  فيجيبها انه يتمنى ان يموت قبل هذا اليوم. "انت تحاول ان تثبت ان كل امرأة واقعة في حبك، غاوي جمع علاقات كما جمع الطوابع لتثبت انك دون جوان". فيجيبها ان "الزواج متل الموت". انت نرجسي مغرور لا تعرف ان تحب.

اهم ما في اهل الغرام انه يناقش العلاقة العاطفية في فشلها والمقاربة مقنعة حيث ان "الزمن يغيرنا فتتغير مشاعرنا. "الحب ينتهي كما كل شيء في الحياة". ان مطلع اغنية الشارة " الا حبّذا حبيب تحملت منه الاذى.." بصوت ذكوري وانثوي معا، يوحي جيدا بالتغير الذي يعتري هذه العاطفة التي في تبدلاتها تحمّل طرفي العلاقة اوزارا وجروحا عاطفية قد لا نُشفى منها.

نستطيع القول ان " اهل الغرام" بمجمل خماسياته تجاوز انقسام ممثلي وصناع الدراما فكان العمل يضم الموالي والمعارض. وفيه مواجهة مع الصور النمطية عن العلاقات العاطفية والانسانية، وعرض للتفاوت في التفكير حول نفس الموضوع بين الاجيال، وفيه اتهام للإعلام بأنه " تشويش على الواقع" وكلام جرايد، وهذا تعبير متداول لدى شعوب الدول العربية التي لا تصدق ما تقوله الجرائد "لأنها مأجورة". وفيه عرض لمفاتن اللجوء: في باريس اشعر انني انسان، ولضياع السوري ما بين انقاذ نفسه والتمسك ببلده، فترى هذا الصراع واضح بين من يقول اذا خربت البلد ضروري ان نخرب معها (ما دخلني) ما يحصل هو جنون يجب ان نهرب منه. وبين من يتمسك بالبقاء لانه يحب البلد حتى في خرابها الاخير. وبين مفهوم اذا ما لعبت بالنار لن تحرق اصابعك.  

اما خماسية "امرأة كالقمر" المقتبسة عن قصة لتشيخوف، فقد جاءت جريئة ببصمة سلافة معمار التي تذكرنا بأدوارها القوية في " زمن العار" و"ما ملكت ايمانكم"، و"اصبع حمرا".

وجدت ان" الغرام المستحيل" كان نموذجاً للخماسيات الاخرى التي حملت العناوين التالية : "بعدك حبيبي"، "شكرا على النسيان"، "يا جارة الوادي"، " مطر ايلول". هذه الخماسيات قاربت العلاقات العاطفية من منظور عصري متأثر بكل التطورات المحيطة بالمواطن منها الحرب وانعكاسها في الوجدان والوعي معا وكفاءة المرأة العلمية ومضاهاتها للرجل وعمل المرأة واحتلالها مراكز مرموقة. وهذا ما نجده في "حكم الهوا"، المسلسل السوري في ثلاثياته التي تحاكي " اهل الغرام" في خماسياته.

وتجدني هنا اتحدث عن مسلسل " حكم الهوا" من اخراج محمد دقاق، الذي رغم اعجابي به لاسيما في التركيز على صورة المرأة السورية الراهنة، لكنه لم يكن مختلفا عن صيغة مسلسل " اهل الغرام" الفارق بينهما ان الاول صوّر في سوريا اما الثاني فتم في لبنان بما ان بعض النجوم السوريين لا يدخلون سوريا امثال جمال سليمان.

والفارق الآخر ان قصص الغرام و العلاقات العاطفية تجري وفي الخلفية تكون الحرب موجودة دائما. والفارق هنا ان العمل كان ضمن ثلاثية وليس خماسية.

في " حكم الهوا" قصص حب وحياة يومية وتصارع بين الافكار السائدة المسيئة للمجتمع وبين تلك الجديدة البنّاءة كعمل المرأة نادلة في مطعم وفي مقهى دون ان تخلو التجربة من ازدراء وتحرش. رفض الفتاة العاملة التخلي عن عملها في ثلاثية "خسارة" ورفض قوامة الرجل عليها الذي بمجرد ان "يكتب كتابه" عليها يحاول فرض امر ترك العمل عليها. ومحاولة المرأة الالحاح في المطالبة بألا يكون العمل المنزلي وقف عليها، والا تكون نتيجة المساواة اي ذهابها الى العمل ضريبة باهظة عليها.

العنصر الرئيسي هي المرأة او الفتاة، الضوء مسلط عليها في خضم هذه الحرب الشرسة. وكيف كانت تداعياتها عليها ، اذ تكون الخاسر الاول والاكبر التي تضطر الى التنازل عن حقوقها المكتسبة مع الرجل بسبب غيابه اما للانخراط في الحرب او الهجرة او الموت.

في الحرب تعود المرأة اشواطا الى الوراء، وتصبح هي المطالبة بالتضحية.  يعود التخلف ليسود مفاهيمنا وافكارنا وتصبح العادات والاعراف اقوى من القوانين، اذ ان الدولة شبه غائبة في مهمة الحرب على جبهات القتال. وتصبح اشكالية الطلاق حين تكون الدولة في محنة وجودية هم فردي وخاص جدا. قلة ممن يفكرون بالقضايا الكبرى. ومن الصعب خوض قضايا رأي عام في ظل الحرب. تنعدم جدلية الخاص والعام تحت وطأة القنابل والسيوف.

نعيش التناقض الحاد الذي يفرضه انفصام المجتمع عما يحصل بسبب الحرب، فنرى الواقع الذي يجعل العادات في مهب الريح حين يفرض موت الاب على الفتاة الممنوعة عن العمل الخروج لكسب لقمة العيش وفي مكان آخر نرى التخلف والغدر بالصداقة حين تتلقف احداهن خطيب صديقتها وتقبل بالزواج منه.

في ثلاثية "خسارة"، نخسر فيها الارواح والانفس ونخسر فيها الكرامة والقيم الجميلة التي تبني مجتمعات والخاسر الاكبر هي المرأة. ولكن يبقى لنا في " حكم الهوا" شيء من الامل اذ ان الحب هو الامل، هو الدافع للمضي في الحياة رغم وحشية وقسوة الحرب. وكما تغني كلمات الشارة "لو ما الهوى ما بيضحك الياسمين/ لو ما الهوى ما بيفرح الحزين".

امام هذه الاعمال المشرقة، التي تعبر عن نضوج في المقاربات الدرامية لمواضيع كالحب والحرب والعلاقات الاجتماعية وعمالة المرأة، تصبح الدراما السورية مطالبة بنهضة، وبالحفاظ على خط القوة والمنافسة، وبنهل دروس تجربتها القيّمة والفريدة منذ التسعينات، وليس الذهاب الى السهل والى محاكاة مسلسلات قديمة وطرح مواضيع ممجوجة لأنها مطلوبة. فالدراما السورية كما استطاعت ان ترتقي بذائقة المشاهد العربي لعقود سبقت الحرب، تستطيع اليوم ان تمتلك خصائص صناعة الرأي ونشر الافكار الجديدة البنّاءة، ومواكبة الواقع وتحولاته السريعة.

نجوى زيدان، كاتبة وصحفية عربية من لبنان

أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر، 2017