“الهوية” : تحرير هضبة الجولان بأيدي ممثلين وجنود ونساء و… أرواح؟

قصة قصيرة : يوم على تخوم الوطن الفلسطيني
في ذكرى وفاة عبد الناصر: الرحيل لا يعني الغياب*
اللغة العربية في اليمن أين أصبحت؟

“الفيلم انتهى ..لم يبق سوى تصويره..” اختار المؤلف وفيق يوسف هذه المقولة للمخرج الروسي الشهير البرت ايزنشتاين، رائد المدرسة الواقعية في السينما السوفياتية، كشعار يفتتح به مخطوطه “يوميات التصوير ـ فيلم الهوية” عن تجربة جمعته بالمخرج السوري “الجولاني” غسان شميط، حيث تشاركا في كتابة سيناريو هذا الفيلم في العام 2005. وقد نشرت “المؤسسة العامة للسينما ـ دمشق” هذا السيناريو في كتاب أصدرته عام 2007، بعد انجاز تصوير الفيلم في الأراضي المحررة من هضبة الجولان السورية التي تحتلها اسرائيل.
وان كانت مقدمة الكتاب قد استدرجتني الى كتابة هذه المداخلة، فان ما احتوته الصفحات قد تواطأت فيما بينها لحثي على مواصلة القراءة، وانا اضحك حينا واعجب حينا آخر، وحتى اتألم او اندهش، واسجل الملاحظات التي جعلت من رسالة الكاتب “اظهار عذاب وعذوبة الفن معا” تدركني، ويدركني معها احساسي بالجهل الناجم عن تواطؤ الاعلام العربي في تزييف او اخفاء او تسخيف بعض ما يرتبط بتاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني،
لا سيما في قرى تلك الهضبة التي حضنت الكثير من البطولات والحب والايثار للارض العربية وللوطن العربي.

واذا كنت انا التي اعيش في محيط جغرافي ينبض بقوة بمجريات هذا الصراع، وانا على هذا الجهل، فكيف بالمواطن العربي القابع بعيدا عن مشرقنا في المغرب العربي مثلا او في الخليج العربي؟.
على الرغم من تعلقي بالنص المكتوب في ظل سيطرة الصوت والصورة، الا انني اشاطر الكثيرين المتعة في مشاهدة كيفية تحويل نص مكتوب الى مشهد مصور، فيه المؤثرات المتنوعة من موسيقى وكلمات والوان وابعاد ووجوه تستفز مشاعرك ، قد تبكيك وتضحكك او تحثك للبحث والتفكيرفي مسألة وجودية او…

وحيث انني طالعت ما عايشه الكاتب في يومياته الذي استطاع ان ينقل الي هذا الكم من مشاعره، فانه ايضا تنقل بي في الكتاب كنحلة تريد الرحيق لتجني العسل. وبما انه انصف بعض ابناء القرية في تعاطفهم مع طاقم العمل في القرية التي اختيرت للتصوير، وتعاونهم ايضا، فانه جعلني امتعض من آخرين، وجدوا في تصوير الفيلم فرصة لكسب المال والتطفل …

تصلح هذه اليوميات في تسجيلها لواقع القرية واحوالها واحوال ابنائها، واعتمادهم الزراعة في الارتزاق والهجرة الى بلاد الاغتراب في تحسين الاحوال، تصلح ان تكون جزءا من عمل دارسي او باحثي علم الاجتماع، رغم أن سياق الكتابة نبض بنكهة الحكواتي

وهكذا في كل يوم من ايام التصوير، نكتشف مع الكاتب صفات وقدرات الممثلين الجدد والقدامى. وكما عصفت اليوميات بآلام العاملين وتعبهم ومزاجيتهم احيانا، فانها نسمت علينا بمعلومات لم نكن لندركها، لولا ان الهام الكاتب حثه على نشر هذه التواريخ التي كان لها ان تبقى شفهية، او ذكريات معششة في عقول القلة ممن شاركوا في هذا العمل، لا سيما تلك التي تحدث عن جغرافية المنطقة وعن امكنة التصوير التي تجعلك تواقا لرؤيتها، وعن العمران وعن البطولات التي تركت فيها النسوة بصمة عميقة، حين كن يساعدن ازواجهن الجنود على جبهة القتال ضد العدو الإسرائيلي، في التذخير وفي الاسعاف، أو باختصار، حيث اقمن لهم الحياة على خطوط النار كي يواصلوا القتال و تدمير المستوطنات الصهيونية.

ويحدث ان تكون المشاهد حابسة للانفاس، لا سيما حين يتعدى فريق العمل الـ 500 شخص. وقد تحبس انفاسك وانت تقرأ او تضحك في وصف السيارات والآليات المستخدمة التي تتوقف عن العمل اثناء اللقطة المطلوبة، او الحمار الذي يحرن ايضا في اللحظة غير المؤاتية.

تكرار المشهد الواحد حتى اعياء الممثلين، تبدل الطقس، خناقات افراد الطاقم، تحكم اصحاب الحيوانات المستأجرة بالعمل، الطعام حين يتأخر، ويصبح القمح المسلوق في مشهد السليقة وجبة الجائعين. او صوت الجرارات التي تعتمد القرية عليها في الزراعة والتنقل بسبب عدم امتلاك السيارات.

ان كاتب اليوميات هذه، لم يقدم لنا المشاركين في العمل كممثلين، بل كشخصيات انسانية نابضة فيها الكثير من الصفات التي لن نعرفها ولن نراها في الفيلم.

لقد استطاع الكاتب بسلاسة ان ينقلني الى متعة ما يدور، فأقفز من يوم الى يوم في جو من التحليل والرصد. وانتقل مع اسئلته في حواره الغني مع المخرج من حيث تجربته ومعارفه واحاسيسه، فهو من النازحين عن الجولان ومن الذين يؤرخون في اعمالهم الفنية لحياة جيلين من سكان الهضبة المحتلة ممن يحلمون بالعودة، وممن قضوا وهم متيقنون من العودة. والمخرج نفسه الذي يتذكر قريته المطلة على جنوب لبنان، وعلى دمشق، وعلى فلسطين والاردن، مقتنع بأن هذه الجغرافيا الفريدة تجعل بلادنا عصية على الاحتلال .

ننتقل من حديث حميم قريب من القلب مع المخرج شميط، لنقرأ سيناريو فيلم الهوية، الذي استطاع من خلال عقيدة التقمص لدى الموحدين في الإسلام (الدروز)، ان يبدع حبكة لفيلمه، تأكد معها ان الدين في العبادات يخدم الفرد امام بارئه، اما في المعاملات، في الجهاد مثلا من اجل استرجاع الهوية والحق والارض، فانما يخدم المجتمع وقضية الشعب والأمة.

واذا كان بطل الفيلم الذي عاد بعد 20 عاما الى قريته، متقمصا جسدا جديدا في قرية مجاورة، ليؤبن والده السابق (في الحياة السابقة)، فيعدد صفاته امام وفود المشايخ، وهو المناضل ضد العدو الصهيوني ووجوده في فلسطين منذ عام 48، وقد تصادفت عودته مع اندلاع الانتفاضة في قرى الهضبة، ومنها قريته السابقة حيث انبرى الاهالي بلوحون بالاعلام السورية، حارقين بطاقات الهوية الاسرائيلية ومطالبين بهويتهم العربية، فإن هذه اللحظة التاريخية ـ الصدفة التي اعادته الى ارضه المحتلة، جعلته مشاركا في ثورة الكرامة.

من هنا كان المخرج ذكيا في مناورة التقمص، واستخدامها كفكرة ايمانية تحمل ايحاءا مكثفا عن معنى الاستمرار والخلود للارواح التي لا يمكن، مع انتقالها الى اجساد اخرى بعد الموت، الا ان تحمل معها قضاياها وآلامها وافكارها التي التصقت بها في كل حيواتها. لذا، فان مواصلة النضال من اجل اراضينا المحتلة، هي كالروح التي تنبض دائما في الاجساد، فتولد جيلا بعد جيل، وكأن المخرج غسان شميط في فيلمه، يقول لنا ان الصراع باق ما بقيت “اسرائيل” مغتصبة لارضنا، وحقنا، واماكن ولادتنا ونشأتنا في القرى والحواكير والسهول والبساتين وكروم الزيتون والعنب، وأن عدوى مواجهة “اسرائيل” تنتقل في الجينات الى اولادنا.

COMMENTS