في الطريق الى بيت إملي*

في الطريق الى بيت إملي*

الدراما السورية… باقية رغم كل التحديات
مسلسل “شوق”*: دعوة للنسيان وشوق إلى سوريا المعافاة
عن "رحلة الاديبة نجوى زيدان الى منزل املي نصر الله"

نترك بيروت من مبنى كلية الجامعة الاميركية صعودا باتجاه الحازمية ثم شتورا، حيث الاستراحة الوحيدة في هذه الرحلة الطويلة نسبياً، لاسيما وان شبكة الطرقات في بلادنا لا تساعد في كسب الوقت اثناء التنقل.
انه يوم الاحد، شوارع بيروت ما تزال تنفرد بصمت عطلة نهاية الاسبوع، هذه الشوارع التي تركت فينا بصماتها وتركنا في مفارقها ذكريات من طفولتنا وصبانا. انه ماضينا الذي يبقى حياً فينا ما دمنا احياء.
بيروت، مدينة المفارقات والتناقضات والجماليات والقاذورات مؤخرا.
مدينة احببتها في ازماتها فأنا من جيل الحرب وما عرفتها في ازدهار ابدا، تعلمت الحرف فيها وارتقيت في مصاف الحب فيها حتى جمام العشق. امام فتنة شاطئها اكتسبت السمرة وفي خضم حروبها تألمت وخسرت احباء وبكيت كما الغالبية من بنات وابناء مدينتي بيروت.
تقابلني بعض الوجوه على طول الطريق، الى هناك، الى قرية اسمها الكفير، وجوه الغرباء الوافدين الى عتمة بيروت، الى قسوة بيروت، الى سأمها من: المتعامين عن رائحتها، عن تلال نفاياتها، عن ظلام احيائها، عن شحّ مياهها، عن ضجيج مولّداتها، عن عوز الكثيرين من ابنائها، المتأنقين في رحلاتهم الى اماكن الترفيه والتسلية في هذا اليوم، وقد تكون الطبيعة الملوثة واحدة منها.
يقود بنا سائق خلوق الى المستقبل القريب، الى قرية إملي نصرالله، أديبتنا الجميلة، ويقودني الماضي الذي يعاودني كلما غادرت بيروت، الى صوَرٍ من الحرب، من ايام الدراسة، ايام المظاهرات، ايام الحب، اتذكر وجوها احببتها وما زالت سيماؤهم محفورة في سجل ذاكرتي البعيدة والقريبة.
تمتد بلادنا امامي، كم من بشر عاشوا فيها من قبل وكم سيعيش فيها من بعد؟ كم طرق هذه الطريق من مرتحل ومسافر وغازٍ؟
 شعارات الاحزاب الحالية بالكتابة العامية، على لوحات كبيرة في مفارق القرى الملتوية، تطالعني رغماً عني " وقت كان بدا كنتو قدا- منشكركن"، شعارات الاحزاب على المراكز: قوات ، كتائب، تيار، احرار، اشتراكية، وصور مرشحين للانتخابات ما زالت مزروعة ومعلقة، تقتحم مدى نظرنا بالقوة، وصورة الرئيس موقعة بـ: اوفياء للعهد ثم صورة جنبلاط تجمعه مع بري،  وصورة ولي عهده تيمور وصورة ارسلان ووهاب، كلها اقتحمت رحلتي الهاربة من كل ما خلفته الصور في نفوسنا. 

Image result for ‫طيور أيلول إملي نصرالله‬‎
والمفارقة ان هذه الصور والشعارات يجاورها ويضاهيها اعلانات عن اجبان تستخدم الاطفال مادة جذب وترويج في الصورة  وثياب داخلية نسائية على اجساد مثيرة…. وكدت ان انسى صور الفنانين ومواعيد حفلاتهم لمناسبات الاعياد والمهرجانات.
هنا بحمدون، مدينة الاصطياف العريقة، تشدني اليها البيوت المهجورة والمنكوبة ولكنها حافظت على جمالية عمرانها الحجري وبقيت شاهدة على قسوة الحرب والمعارك التي دارت فيها، من الثقوب والجدران والادراج المهدمة. كم قُتل هنا من اللبنانيين : الاطفال والنساء والعجائز والشباب، وكم تركت هذه الاصابات من أناسٍ مُصابةٍ في نفوسها.
نستمر صعودا الى ضهر البيدر، بَخَّات من مطر ايلول تستقبلنا فنفرح، وغيوم نكاد نطالها ترافقنا و"شلعات" من الماعز تتهادى في الوديان وفوق التلال. رأيت سكة الحديد المتهالكة وبقاياها المهترئة وتخيلت المسافرين محملين بحقائبهم، لا لم تكن حقائب، كانت الحقيبة صرة او سلة او قفص خشبي، ورجال يرتدون الشراويل والعقالات ونساء يتهادين بفساتين طويلة ملونة وغطاء رأس بسيط ومشية محتشمة..
الشمس من جديد، تنثر صباها على التلال المقابلة لضهر البيدر فوق الجبال التي حاولوا المتنفذين قضمها. هنا المريجات، في عجقة الاحد الاعتيادية، وفي متناول نظرنا، سهل البقاع المشوّه بالعمران العشوائي والذي يناضل للاحتفاظ بوظيفته وجمال مشهديته.
صوت فيروز يصدح ويؤنسنا ورفقة طيبة تمتعنا ببعض التعليقات والاحاديث والضحكات و"ضيافة البوسطة".
استراحتنا في شتورا، المدينة التي شهدت الكثير من الاحداث التاريخية، اليوم تلفها مظاهر الفقر وسوء الحال: باعة من العجائز يجولون ببضاعتهم من جوز ولوز وتين يابس ومسابح، يلاحقونك في استراحتك الى "بيت طيور ايلول" علهم يفوزون ببيعة تقيهم شر الجوع.
ننطلق من جديد باتجاه المصنع ونلتف الى اليمين نحو الجنوب، حيث تترامى القرى المنسية والمهملة، قرى سمعت بها ولم ازرها من قبل، مشهد يرافقنا من بر الياس الى الكفير، مشهد يشي بالتناقض العمراني العائد الى اموال المغتربين وسوء بنية المواصلات. 
الطريق الى مكان إملي متعب، لكنه يستحق العناء، فيه خصوصية الجغرافيا، اذ تقبع الكفير في سفح جبل الشيخ.

Image result for ‫المكان إملي نصرالله‬‎
ان فكرة المشروع، مبتكرة وممتعة في آن، ان يصبح المكان الذي نشأت فيه كاتبتنا متحفاً، نزوره ، نتزود من فضائه رائحة القرية الحقيقية رائحة البساطة، نتحسس فيه حواسنا الخمسة فكأننا نلمس الحاضر ونرى الماضي ونشم رائحة الزيتون ونسمع صوت الطيور والجوارح ونتذوق اطايب الارض السخية… انها فكرة جديرة بالتقدير والشكر.
 فعلا انه لعمل مبدع ان نُبقي رموزنا الادبية حيّة في مكانها وفي وجداننا في آن معاً. أن نعلي من شأن القرية التي أثرت خيالها واغنت تجربتها الكتابية، وبذلك تكون الكفير حريصة على ذاكرتها من خلال مشروع ثقافي وطني يُقدم مثالا لقرى انجبت الكثير من مبدعي لبنان، كما وانها تُنعش هذه البقعة من ريفنا الفقير والمنسي ولو لبعض الايام والاوقات، فتنقذه من القحل والمحل.
شغلني في مشواري هذا قصص الجدات والامهات التي اغوتنا وعبقت بمخيلتنا بألوان من الصور، منذ نعومة الاظفار. قصصهن التي زرعت فينا معنى ومبنى الحكاية.
امر آخر احترمته في تجربة "بيت ايلول" الذي نقلنا الى القرية في بانوراما شيّقة، بيت الاجداد، زريبة الابقار، المدرسة والدكان والكنيسة، المدافن ولو انها انقسمت تبعا الى اللون الطائفي للميت، وأهم من ذلك كله صخرة القرقار، ملاذ الكاتبة إملي نصرالله للتأمل والتفكر. هذا الامر هو الاحتضان. احتضان الموهبة من قبل الاهل المهاجرين والمقيمين، احتضان قامة ادبية معطاءة في حياتها وفي ادبها.
ان تحويل بيت الاجداد التي نشأت فيه إملي الى حاضرة مدنية اسمها المتحف، مبادرة تختصر الكثير من معاني الارتباط بالاهل، الاكثر تأثيرا في نفوسنا وشخوصنا ومصائرنا، الارتباط بالمكان الذي انتج ما اصبحنا عليه اذ كان ركيزة انتمائنا ووعينا لذواتنا.
هنيئا لإملي التي رغم رحيلها، بقيت بيننا من خلال  احتضان عائلتها لا سيما ابنتها التي استقبلتنا بترحاب وبشرح مستفيض عن اناس في صور شكّلوا عالم إملي في ذاك الرواق الطويل من "بيت طيور ايلول"، و" طيور ايلول" كانت النتاج الادبي الاول الذي قدمته لنا الكاتبة. وهنيئاً لاهل القرية، هنيئا لكل هؤلاء بها، لقد جعلت الكفير على خارطة حماية الذاكرة الوطنية والثقافية.

نجوى زيدان، كاتبة وصحفية عربية من لبنان
* نظمت دار قنبز مشكورة فعالية اطلاق كتاب الاديبة إملي نصرالله " المكان" واطلقت مبادرة "بيت طيور ايلول" بيت نشأة الكاتبة وتنظيم رحلات اليه في شهر ايلول وقد كانت رحلتي يوم الاحد في 9 أيلول 2018.