خالي.. سيرة.. ومنام يُخرجه الى الحياة

خالي.. سيرة.. ومنام يُخرجه الى الحياة

“الكارثة الإنسانية، سلاح إسرائيل في المرحلة الثالثة من الحرب” التي تشنها على غزة؟
العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وأصداؤها في يومها السادس
فدائيات غزة يتقدمن صفوف “مسيرات العودة” إلى فلسطين 

سأحدثكم عن خالي ( يوسف فياض عبدالله).. الذي تفتّحت عيناه على الدنيا في العام ١٩٢٩.. ودرس- وهو في الخامسة من عمره- ثلاثة أشهر عند المدّرس القرآني خليل عيسى ، كانت كافية لطفل ذكي واعٍ لكي يتأبّط قرآناً جامعاً ختم على قراءته من الصفحة الأولى الى الأخيرة وهو في حضن الطفولة الواعي…
تشهد له كل حقول البلدة (قليا ـ البقاع الغربي) وجنباتها.. وقبل ذلك لمعوله ، أنه لم يترك زاوية إلا و" نكش" وغرس و" حلش"( حصد).. ما زرع..
كانت حتى الأمس القريب له دابة تحمله الى حيث تينه وزيتونه وقمحه وسمّاقه، وعدسه، .. وبالتأكيد الى" صحرة" المأثي (القثاء) والبطيخ… وجنى يداه…
غلال ضيعتي من محراثه.." فدّانه" يعرف سفوح الضيعة كما يعرف مراعيها.. على بيدره كان " مورج" (وفي بعض المصادر نورج) الأمس الذي أنتج وأطعم وأهدى وأغنى..
كنا عندما نركب خلفه على ذلك المورج نشعر أن بساط الريح يطاردنا فلا يلحق ، وأن أعراس الدنيا لا تتسع لفرحتنا.
مذ تفتّحت عيناي على هذا العالم وصورة خالي تتكرر هي هي.. صلاة الفجر على المصطبة تصاحبها سُبّحة سوداء أكلت منها يداه ما كوّرته الأيام حتى كادت " بلوراتها" تستغيث وهي تستريح تحت يد ما سبحت لغير الله.. أدعية تترى وقرآن يُتلى.. ومن أحسن من خالي صوتاً في التلاوة والتجويد..
لا أعتقد أن أحداً في هذا العالم هو أكثر سعادة من خالي.. كابوس محراثه أغنى مما يملك " بيل غيتس" وعصا معوله المنحوتة من سنديان " لوسي" المجاورة هي الأبهظ ثمناً من ممالك أهل الأرض.. سعادة خالي لا توصف، هي مزيج من قناعة الفقراء وخليط من مرحٍ لا تمر مواسمه إلا في حقول الحصّادين.. ولاتتعثّر أنامله إلا في تراب الواثقين..
لا وصف ولا توصيف لإيمان هذا التسعيني .. ثقته بالله لا تضاهيها ثقة العارفين.. تسابيح كلماته تلاحق عبارات المتكلمين.. وتمتمات تهليله وتكبيره .. تسابق أفواه المتحدثين.
منذ طفولتي والى أشهر خلت أتابع هذه " البركة" التي لا تضاهيها حركة.. أرأيتم تسعيني لا يأكل إلا من كد يده..!!.
ألمحتم ذاك الذي تنحني الأيام عند عقوده التسعة ولا يتدّفأ إلا على ماجمع من حطب أرضه
وما " تغذّت " عليه فأسه التي كان يشق بها جماد الحطب لأشهر خلت..!.
والله.. ما نظرت الى يديه مرة إلا واستذكرت ذاك العامل الذي انحنى له رسول الله( ص) مقبلا يده وهو يقول:" هذه يد لا تمسها النار".
حكايات خالي بيادر المواسم البيض في بلدتي، على ترابها تزدهي أغمار أعمارنا.. مذ احتضننا بين يدي قرآنه، و.." سلمنا" عرش " سفينة النجاة" التي هي حقله الآخر .. يتلو منها مجالس العزاء.. ويعطينا إياها ويطلب منا أن نقرأها في مجلسه
بين يدي زواره من عاشقي الحسين( ع).. في كربلاء.. فنقرأ.. ونقرأ.. ونرقى بين الناس..
حتى عندما كانت الأعراس في بلدتي تقتحم فُسحة المسجد في زمن ندرة المتدينين، كان خالي يقتحم بمجالسه أعراسهم ويدق ناقوس إيمانه على أبوابهم..
مه ..لما أُكمل القصة عن خالي الذي يشتاق المثقفون عندنا للجلوس الى مائدته الثقافية.. يغترفون من شاعريته " الفلاّحية" وحكاياته التي هي مزيج من تجاربه.. و أشعار الشيخ علي زين.. ولطائف" أبو كامل".. ونوادر أهل المنطقة.. لا بل أهل الدنيا، ويشهد أهل البلدة لسلته الممتلئة بزاد الأحدوثة المعبرة.. وأحسب أن أكبر الخاسرين هو الأديب الشعبي الراحل سلام الراسي الذي لم يتسن له الإرتواء من عناقيد وتين هذه السلة الحاملة لفاكهة كل الفصول..
"الفيسبوك" لا يتسع لتجارب هذا الخال.. وأنا على كل حال متهم بالمطولات.. دعوني أختصر:
بالأمس القريب أُدخل خالي على عجل الى المستشفى( يعني بعد أشهر من مغادرة يداه لفأسه ومعوله).. أحاط به النزيف .. قال الطبيب لنجله الأكبر الأستاذ عبدالله ليس أمامك ألا خيارين:
إما أن تحمله الى البلدة وتنتظر لحظات وداعه الأخيرة، إما أن نُجري له بعد ساعات عمليه له من الحظ فيها وفي الحياة واحد بالمئة..
وبالطبع سكن الأستاذ عبدالله الى الخيار الثاني.. وفي غمرة هذا السكون، وبانتظار تلك السويعات كان خالي يغط في نوم.. ولكن في رحاب منام إستيقظ بعده على صوت الطبيب يبلغ الأستاذ عبدالله بأن النزيف توقف لوحده!!.
استفاق خالي ليروي لإبنه والحاضرين منامه:
رأيت ولدا 
صغيراً يخرج من غرفة منزل ولدي عبدالله وهو يتلو الآيات من سورة الأنبياء:
( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون..)
ثم يخرج من الغرفة الثانية – من سطحها الذي ينشق- ولد آخر وتتواصل الآيات:( لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون..)
ثم يتبعه ولد آخر ينزل من سقف الغرفة الثالثة و تكرّ السُبحة القرآنية:(لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون…) الى آخر الآية١٠٨ من سورة الأنبياء..
اليوم زرت خالي الخارج من المستشفى متأبطاً قرآناً، متطلعاً الى رحمة الله.. عاكفاً على محاكاة عقوده التسعة التي لم يُزعج فيها أحداً غير محراثه وفأسه ومعوله.. فهو العاشق للعمل المنكّب على حب الناس الماشي في فصول سيرته الأخيرة على طريقة النحل في الطير..
وتطول القصة عن خالي.. ولا تنتهي.

هاني عبدالله، كاتب وصحفي ومناضل عربي من لبنان
النص منشور على صفحته الإفتراضية يوم السبت، 17 آب/أغسطس، 2019