ليونيل فيرون: السياسة الأميركية تجاه الصين تعاني من الانفصام

ليونيل فيرون: السياسة الأميركية تجاه الصين تعاني من الانفصام

“إسرائيل” وتركيا والنظام الكردي المحلي بشمال العراق يهددون مصالح إيرانية وروسية!
وديع حداد… والبيئة الجغرافية ــ الاجتماعية
من المُحاصَر، الصين أم الولايات المتحدة الأميركية : من أجل وعي ثوري يحاصر الحصار 

بمعزل عن التباينات حول كيفية مواجهة «التحدّي الصيني»، فإن القطاع الأوسع من النخب السياسية والعسكرية الأميركية بات مُجمعاً على ضرورة اعتباره الأولوية الأولى في سياسة بلادهم الخارجية. لكن دونالد ترامب، الذي أعلن يوماً أنه مختار من الله للتصدي لصعود الصين التي يشنّ ضدّها حرباً هجينة متعدّدة الأوجه، لا يتردّد في توجيه رسائل وإشارات تناقض المواقف التي يجهر بها والسياسات التي يتبعها. ليونيل فيرون، الدبلوماسي الفرنسي السابق وأحد أبرز الخبراء في الشؤون الصينية، قدّم إلى «الأخبار» تحليله لخلفية التناقضات في السياسة الأميركية حيال الصين، ولاحتمالات التوصّل إلى تفاهمات بين واشنطن وبكين، وكذلك معطياته عن التطورات داخل الحزب والدولة في هذا البلد.
سلسلة مواقف وقرارات رسمية أميركية تُظهر أن المواجهة مع الصين انتقلت إلى مرحلة جديدة، من سِماتها التدخل السافر في شؤونها الداخلية والتحريض العلني – كما يجري مع الاحتجاجات في هونغ كونغ – على التصعيد ضد النظام.
يعتبر ليونيل فيرون أن «هناك اتجاهين حيال الصين في الولايات المتحدة: أحدهما أيديولوجي، والآخر واقعي يسير على خطى هنري كيسنجر الذي كان صديقاً كبيراً للصين. وللاتجاهين أنصار في المؤسسة السياسية والعسكرية وفي مراكز الأبحاث. إدارة ترامب تمثل الاتجاه الأول، وتخوض ضد الصين حرباً باردة جديدة، بدأت بوادرها أيام إدارة أوباما. لكن الاتجاه الواقعي يرى أن من الضروري التعامل مع الصين انطلاقاً مما بات لديها من ثقل اقتصادي وسياسي على الصعيد العالمي. في الواقع، فإن السياسة الأميركية الفعلية تجاه الصين تعاني من انفصام قويّ. هناك تصريحات وخطوات عدوانية تليها محاولات تخفيض للتوتر، أي أننا أمام تقلّب مستمر يرتبط بشخصية ترامب الذي يقول الشيء ونقيضه. رأينا مجدداً ذلك مع تصويت الكونغرس ومجلس الشيوخ الأميركيَّين على قانون داعم للديمقراطية في هونغ كونغ، ورفض ترامب التوقيع عليه بحجة أنه صديق عزيز للرئيس الصيني شي جين بينغ. ينبغي عدم نسيان تأثير المستوى الفكري للرئيس الأميركي في عملية صياغة السياسة الخارجية لبلاده. هو ذكّرنا منذ بضعة أيام مثلاً بأن سبب امتناع السلطات الصينية عن قمع احتجاجات هونغ كونغ بشراسة هو تدخله المباشر لدى صديقه شي جين بينغ. أتباع المدرسة الواقعية من جهتهم يعتقدون بأن الولايات المتحدة والعالم يحتاجان إلى الصين اقتصادياً، إذ أنها قاطرة النمو على الصعيد العالمي ولا مصلحة لأحد في انهيارها أو تراجع حيوية دورها. التناقض بين هذين الاتجاهين عامل لا يمكن إغفاله عند تحليل السياسة الأميركية. للصين نقاط ضعف داخلية أبرزها إقليم سين كيانغ، وهونغ كونغ المهمة اقتصادياً ومالياً بالنسبة إليها، والتي تستطيع واشنطن استغلالها للضغط على بكين سياسياً وإعلامياً. التعامل مع التطورات في هونغ كونغ موضوع معقّد، ولا يمكن اللجوء إلى القمع كما حصل عام 1989 في بكين. المسؤولون الصينيون يتعاطون مع الأحداث بحذر وهدوء في الآن معاً، ولا يمكن مقارنة مستويات القمع ضد المحتجين بتلك التي يتعرّض لها أنصار "السترات الصفراء". القيادة الصينية لم تتوقف عن إبداء حسن نواياها واستعدادها للتفاوض لإيجاد تسويات للحرب التجارية مع الولايات المتحدة، لكن المسألة بالغة الصعوبة لأن مطالب الأخيرة تتغير باستمرار وتزداد تشدّداً».
هدف الحرب التجارية والاقتصادية هو تأخير التطور التكنولوجي للصين، والذي سيسمح لها بالتحول إلى قوة موازية للولايات المتحدة. يبدو أن هذا التطور التكنولوجي، على الرغم من الضغوط الخارجية المختلفة، يحقّق قفزات نوعية، خاصة في المجالات العسكرية، كما تبدّى في العرض العسكري في ذكرى إنشاء جمهورية الصين الشعبية. يرى فيرون أن هذا «التحليل ينطلق من فرضية ثقافوية أميركية وغربية خاطئة مفادها أن الصينيين لا يحسنون سوى التقليد والنسخ ويعجزون عن الاختراع. هذه الفرضية واسعة الانتشار بين الخبراء والمتخصّصين بالشؤون الصينية في الغرب. ما ثبت حتى الآن أن العقوبات والضغوط لم تعطِ النتائج المرجوّة، وأن الصين حقّقت في بعض المجالات تقدماً كبيراً لدرجة التفوّق في مجال الصواريخ مثلاً على الولايات المتحدة».
العداء للصين بات أيديولوجيا سائدة في الولايات المتحدة، وهناك حرص دائم على التركيز على التناقضات الداخلية فيها للتدليل على وجود عوامل ضعف داخلية، بما فيها انقسامات في رأس هرم السلطة. تسريب وثائق رسمية صينية لوسائل الإعلام الأميركية عمّا يجري في إقليم سين كيانغ فُسِّر على أنه دليل إضافي على هذه الانقسامات، وأن معارضين لشي جين بينغ هم المسؤولون عنها. هل هناك فعلاً مثل هذه الانقسامات؟ وما خلفياتها وتداعياتها المحتملة؟ «الإجابة على هذا السؤال تتطلّب العودة إلى عام 2012، عندما وصل شي جين بينغ إلى السلطة والسياسات التي اعتمدها منذ خطاباته الأولى. هو باشر بحملة مكافحة فساد لا سابق لها. كانت هناك حملات مكافحة فساد قبل ذلك التاريخ، أيام هو جن تاو، لكنها لم تكن فعّالة لأن القدرة على التحكم الكامل بالنظام لم تكن موجودة. الحملة الحالية شرسة، وتطاول جميع المؤسسات السياسية والعسكرية، والحزب الشيوعي، بمستوياتهم المختلفة. فُصل أكثر من 300 ضابط من الجيش، وتم سجن بعضهم، بِمَن فيهم جنرالات. طاولت الحملة كذلك كوادر من مستويات قيادية في الحزب الشيوعي، بِمَن فيهم أعضاء في اللجنة المركزية. أتت هذه الحملة بعد 34 سنة من الانفتاح الاقتصادي أدت إلى تعاظم للفساد قلّ نظيره. التدفّق المفاجئ والهائل للرساميل على البلاد ساهم في ذلك، وكذلك اللامركزية الواسعة التي كانت سائدة والتي سمحت لحكام أقاليم ومسؤولين محليين للحزب الشيوعي فيها بالتمتع بسلطة وصلاحيات واسعة، مع ما يعنيه هذا من قدرة على الحصول على رشاوى ومنافع متعدّدة. وصل شي جين بينغ إلى موقعه في نظام بقاؤه مهدّد بسبب الفساد المستشري في دوائر الدولة والحزب. قراره بطرد و/ أو سجن هذا العدد الكبير من الناس ومن المسؤولين بتهمة الفساد، والذين يُسمّون في إعلامنا الغربي معارضين، كافٍ لكي يدفع الأطراف المتضررة لمعارضته. اعتبار آخر يحفّز على معارضته، وهو قراره إعادة الاعتبار إلى مركزية السلطة بعد حقبة طويلة من اللامركزية. طغاة محليون بالمعنى الحرفي للكلمة خسروا صلاحياتهم والمنافع المتصلة بها وهذا يثير حنقهم على الرئيس الصيني».
سباق التسلح بين الولايات المتحدة والصين يتصاعد بدوره، ويظن البعض أن انسحاب الأولى من معاهدات الحدّ من التسلح، خاصة تلك المتعلقة بالصواريخ المتوسطة المدى والتي كانت قد وقّعتها مع روسيا، مُوجّه ضد الصين، وأن غايته إلزام الأخيرة باتفاقيات جديدة تحدّ من تطور قدراتها الباليستية والنووية. «للصين سياسة ثابتة تعبّر عنها في جميع المؤتمرات والمحافل الدولية، وهي مناهضة الهيمنة الأميركية. وتتطلّب هذه السياسة تصحيح الاختلال في ميزان القوى العسكري الراجح لمصلحة الولايات المتحدة. المشكلة لا تكمن في استعداد الصين من حيث المبدأ للتفاوض على اتفاقيات ومعاهدات لضبط التسلّح، بل هي في انعدام الثقة الكامل بينها وبين الولايات المتحدة. إذا نظر الصينيون من حولهم، فسيجدون أن الأميركيين يهبون قوارب سريعة هجومية للفيتناميين في مواجهة البحرية الصينية، وانتشار البحرية الأميركية في بحر الصين الجنوبي، ومساعيَ للمزيد من الوجود العسكري في الفليبين ودول مجاورة أخرى، ونشاطاً محموماً في آسيا الوسطى التي كانت بعض بلدانها قاعدة خلفية لدعم الحركات الانفصالية في السي كيانغ. هم يعرفون أيضاً ما تبذله الولايات المتحدة من جهود في محاولاتها إبعاد روسيا عن الصين. من الممكن أن نتحدث مطولاً عما يدور في شبه الجزيرة الكورية. المشهد بمجمله في جوار الصين المباشر لا يتضمّن أيّ معطى يبعث على الثقة لدى المسؤولين الصينيين تجاه الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، ما الفائدة من توقيع معاهدات واتفاقيات مع إدارة لن تتورّع عن الانسحاب منها بأيّ ذرائع ومسوّغات إذا رأت أن مصالحها، بما فيها الانتخابية، تقتضي ذلك؟ أظن أن ما كان قد بقي من صدقية أميركية على الصعيد الدولي انهار تماماً مع ترامب»، يختم فيرون.

حاوره :
وليد شرارة، كاتب وباحث ومفكر عربي من لبنان
ليونيل فيرون، خبير في الشؤون الصينيّة
الأحد، الأول من كانون الأول، 2019