مقدّمات لواقع الحال قبل «كورونا»: اقتصاد عالميّ متشابك في بيئة «جيوبوليتيكية» ملغومة

مقدّمات لواقع الحال قبل «كورونا»: اقتصاد عالميّ متشابك في بيئة «جيوبوليتيكية» ملغومة

لماذا«الهرولة» باتجاه قانون التشاركية؟!
وزير خارجية الهند : دور كبير على عاتق مصر والهند لتخفيف حدة حالة الاستقطاب العالمية
منظمات أميركية "تصدِّر الديموقراطية" إلى الجزائر عبر سفيان جيلالي وأشباهه

يعرض المفكر والباحث العربي المصري الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى في هذا البحث بعض تحولات الإقتصاد السياسي للنظام الدولي والعلاقات الدولية. فمن المسلم به أن النظام قد دخل مرحلة انتقالية، مع اضطراد تغير ميزان القوى المادي ـ الإنتاجي بين أطرافه، واشتداد الأزمة العامة للرأسمالية. ويقدم الدكتور عبد الشفيع عيسى في هذا البحث التحليلي ـ التطبيقي، الذي ينشر موقع الحقول الجزء الأول منه، مساهمة نقدية للنقاش "العالمي" الراهن عن "العالم بعد وباء كورونا". على أن يتم لاحقاً نشر الجزأين الثاني والثالث.  

لن يكون عالم ما قبل «كورونا» مثل ما بعده، هكذا يقول الجميع. ولكن ما هو الذي كان «قبل كورونا»؟ والحديث هنا عن الاقتصاد العالمي بالتحديد. لقد كانت تلك مقامرة خطرة حقاً، أن يقوم أحد أطراف اللعبة التي أسهم هو في وضع قواعدها المستقرّة منذ عشرات السنين، بمحاولة العَصف بها، ويضرب بها عرض الحائط، كما يقولون، ليذهب بها باتجاه «المباراة الصفرية» الخالصة. ذلك ما قام به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وإدارته، في مضمار التجارة المتبادلة مع شركائه الأقرَبين، وخاصة الصين، حين «قلب رأس المجنّ» وانقلب على ما كان قائماً، و إن كان معه، من وجهة نظره، بعض الحق أو شيء من ذلك.

خلال ثلاثين عاماً أو يزيد، شرّعت الولايات المتحدة أبواب التجارة والاستثمار أمام الشركاء القدامى (أوروبا واليابان) والجدد نسبياً (بلدان الشرق الأقصى، وبعض من أميركا اللاتينية، وخصوصاً المكسيك والبرازيل والأرجنتين) والجدد (ولا سيما الصين)، متردّدة بين الفتح والإغلاق و«المواربة»، قبل وبعد إقامة منظمة التجارة العالمية، عام 1994. وفي سبيل ذلك، مضت الرأسمالية العالمية مطلقة السراح تماماً، بعد انهيار المنظومة السوفياتية عام 1990، لتعيد تشكيل العالم على مثالها الاقتصادي وأنموذجها الثقافي، ولكن في أسوأ صور الرأسمالية؛ أي ما يسمّى بـ«الليبرالية الجديدة»، التي قامت منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم، بالحلول محل مذهب تدخّل الدولة و«دولة الرفاهة»، في كلّ من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بصفة خاصّة.

ومنذ أوائل الثمانينات، مع انفجار «أزمة الديون العالمية» في الدول النامية، وخاصة المكسيك، كانت الدول الغربية الرأسمالية بالقيادة الأميركية، قد أوكلت إلى صندوق النقد الدولي ـــــ بالاشتراك مع البنك الدولي ــــ مهمّة القيادة الحثيثة للنظام النقدي والمالي الدولي، بما في ذلك تصميم وإنفاذ صفقات الديون وفق برامج «التكيّف الهيكلي»، حيث الاستدانة المرتبطة بشروطٍ معلومة، تحقق الأهداف المبتغاة من «الصندوق» و«البنك».

عند هذه المحطات الانتقالية، إذن، مضت الرأسمالية العالمية، وفي تواريخ تقريبية: من تدشين «الليبرالية الجديدة» عام 1975، إلى القيادة المشروطة للمنظمتيْن: الصندوق والبنك عام 1984، وسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1990، ومن بعد ذلك: فرض «منطقة اليورو» وفق منطق سوق الليبرالية الجديدة في عام 2000، ثمّ الخروج من مأزق الأزمة المالية، بين عامي 2008 ــــ 2009، باستعادة فجّة (في أوروبا) أو غير فجّة (في أميركا) للرأسمالية الاحتكارية النهمة ذاتها… وصولاً إلى «أزمة كورونا»، بين عامي 2019 ـــ 2020.

على طريق الأشواك ذاك، مضت تلك الرأسمالية الاحتكارية النهمة، وفق نسخة «الليبرالية الجديدة»، بقيادة المنظمتين في أميركا وأوروبا، وخصوصاً في منطقة اليورو، تستعيد ماضيها البعيد وغير البعيد، حيث الشركات العملاقة العابرة الجنسيات تخدم وتخدمها حكومات قصيرة النظر دائماً، تدير الأزمات ولا تعالجها، كما هو الشأن طوال التاريخ الرأسمالي للعالم الكوني في العصر الحديث. وكعهدها دائماً، قامت وتقوم بتدويل الإنتاج، وفق صيغة لتقسيم العمل وتوزيع المهام، على النحو غير المتكافئ المعروف، الذي قد أنتج ما هو معلوم من ممارسات «الاستعمار القديم»، طوال أربعة أو خمسة قرون متطاولة منذ فجر العصر الحديث في مطلع القرن السادس عشر، ومن خلال «الاستعمار الجديد» في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثمّ «ما بعد الكولونيالية» معها ومعه.

هذه «كورونا» إذن، تطلّ علينا بعيون «الليبرالية الجديدة»، حيث تغيب الحكومات الكبيرة لصالح الاحتكارات العملاقة، ويغيب منطق الوظيفة الاجتماعية لصالح منطق الربحية، وتُشيّد مصانع الأسلحة وتُخاض الحروب بدلاً من بناء المشافي والمدارس والجامعات من أجل الجميع. وهي تطلّ علينا، وقد غاب المنافسون الحقيقيون والأغيار (السوفيات، وصين ماو تسي تونغ)، ليحلّ محلّهم شركاء تابعون عسكرياً أو منخرطون اقتصادياً في سلاسل الإنتاج المدوّل والموسّع على نحو غير مسبوق. سلاسل تعملقت لتلْتهِم الجميع، كباراً وصغاراً، من «الصين الجديدة» إلى سنغافورة، ومن كوريا الجنوبية إلى البرازيل والأرجنتين والمكسيك، مروراً بماليزيا وربما تركيا وغيرها.

هذا هو العالم الاقتصادي الكوكبي، الرأسمالي العالمي، الذي أفرز أزمتين كونيَّتيْن في أقلّ من عقد زمني واحد (بين عامي 2009 و2019). عالمٌ جديدٌ قديم، لا يرحم منطق السوق والربح فيه، يسعى إلى العالمية الموسّعة للرأسمال ــــ باسم العولمة، عابراً من فوق الأقاليم ـــ باسم «الإقليمية الجديدة» New Regionalism، مؤسِّساً الاتحادات ـــ باسم الفيدرالية، حتى في عقر دار أوروبا (الاتحاد الأوروبي)، ومقيماً مناطق «الأسواق الحرة» في كلّ مكان: أميركا الشمالية والوسطى («نافتا» وما بعدها)، وأميركا الجنوبية («ميركسور» وغيرها) وأفريقيا («كوميسا» وما حولها، وما بعد الجميع: منطقة التجارة الحرّة الثلاثية TFT) وآسيا («آسيان»)، وشراكة عبر آسيا والمحيط الهادئ، وشراكة عبر الأطلسي. بينما تختفي أو تشحب التكتلات (القديمة) القومية حقاً (الجماعة العربية). ومن خلف المشهد وأمامه، تطلّ من بعيد ومن قريب، رايات الأنانية القومية لتسقط أوهام الاتحاد والكونية و«الأوروباوية»، حيث يسقط الاتحاد الأوروبي أمام اختبار «بريكسيت» ــــ خروج بريطانيا ـــ ثم تحت سنابك «كورونا»، على وقع أنين إيطاليا وإسبانيا، بينما تُترك أفريقيا والمنطقة العربية وغرب آسيا للأقدار، تقذف بها يمنةً ويسرةً، وإن كانت رفيقة بها حتى الآن، مع أقلّ قدر ممكن من ضحايا «الإصابات والوفيات».

تلك إذن هي «كورونا»، وهذا عالمها المهيب، الخائف المخيف، حيث الذي توقعناه من أثر هيمنة «الليبراليين الجدد» على المقادير، يصل إلى حدّ النذير بنهاية العالم الوشيكة، مع وصول التهديد البيئي والمناخي إلى أقصاه، بما يحمله من تهديد ممكن أو فعليّ للأوبئة والمجاعات. ذلك ما يمكن لنا أن نصفه بالتشابك الاقتصادي العميق، تحوطه بيئة «جيوبوليتيكية» ملغومة أو مأزومة.

 

من أين وإلى أين إذن؟ ذلك ما نحاول السعي لمعرفته الآن وغداً.

ولنبدأ بالسؤال من أين؟ عالمٌ اقتصادي وصل بمنطق التوسّع الرأسمالي المعولم إلى أقصاه، إلى نقطة لم يبلغها من قبل. منطق السوق والثمن والربحية والاحتكارات والنَّهم، وفيضان الأموال الهائمة الساعية، والنزوع إلى الهيمنة على أكبر رقعة جيو ـــ سياسية ممكنة، مع أنانية «قومانية» مفرطة في حقيقة الأمر. ذلك هو التشابك الاقتصادي الأقصى، تجسّده سلاسل العرض Supply Chains، سلاسل القيمة المضافة العالمية Global Value Added Chains، لتستأنف سيرة بدأتها منذ بدأت الرأسمالية كنظام عالمي، خلال العصر الحديث. هو التشابك الذي لا يحدّه حدّ إلا منطق الربح، فتسعى إليه لاهثة (ولو في الصين!) و تضحّي باعتبارات الاعتماد الذاتي، وتذهب إلى أبعد مكان على الكرة الأرضية لتخفض النفقة، وتزيد الإيرادات وتعظّم العوائد الخالصة، وتكدّس الأموال في خزائن الذهب الفيدرالية والبورصات العالمية، وأسواق المال المعولمة في أيّ مكان، وكلّ مكان. هذا عالم ما قبل أو (قبيل «كورونا»): تشابكٌ مختلطٌ بالأنانية القومية، تمتزج فيه تيارات الأرباح المائجة بسيل الدم المهراق في حروب بلا نهاية ولا لزوم لها: من الحرب الكورية في مطلع الخمسينات، إلى حروب الهند الصينية وفيتنام في الستينات، إلى حروب الكيان الصهيوني ضد العرب منذ الأربعينات، إلى حروب الخليج الثلاث في الثمانينات، وأفغانستان، عدا عن جولات التدخّل العسكري المتقطّعة هنا وهناك، وخصوصاً في أميركا اللاتينية (الفناء الخلفي للولايات المتحدة). وفي قلب التشابك الاقتصادي العظيم قبل «كورونا»، يشتعل التوجّس «الجيو ـــ سياسي» المقيم بين طرفيْه الأبعديْن الأقربيْن: أميركا والصين؛ حيث ربْحٌ برائحة الدم فإذا هي «أرباح دموية» إن شئت، وتجارة ممتزجة بالحرب، فإذا هي «حرب تجارية»، كما نشهد ونعلم من سيرة دونالد ترامب.

قد جاءت «كورونا»، إذن، محمّلة بعبق مزيج من العطر والدماء، وخليط للأصوات المتنافرة من صليل السيوف ورنين الذهب الأصفر وخشخشة «الأوراق الخضراء الظهر» ــــ الدولارات. وقد تُخْفي «كورونا» كلّ ذلك وقتاً، ولكن هل تخفيه أبداً…؟ ذلك ما نحن غير مُتيقّنين من كُنْهِهِ، في عالم يسوده «عدم اليقين» كما يُقال. ولكن، فلنحاول فحص الأمر بعقل بارد نوعاً ما، في ما يلي من حديث.

 

عودةٌ إلى أطروحة «التطوّر غير المتكافئ»

كم هو متشابك هذا الاقتصاد العالمي في عصر «ما قبل كورونا»، عصرُ توسُّع الرأسمالية العالمية بقيادتها الدولية الغربية، بمركزها الأميركي، على الصعيد الكوكبي، في ما يطلق عليه «العولمة». عالمُ وعصرُ حركة التدويل المتعاظمة على نحو غير مسبوق. عالمُ وعصرُ المال الدوّار، الهائم بغير انقطاع على مدار الساعة، كما يقولون، سعياً إلى تعظيم الأرباح وفق القانون المعهود للنظام الرأسمالي، في ما يقال له بالإنكليزية Profit Maximization. ومع الربح، نزاعٌ ثم صراع، ومن بعده حربٌ وحروب. ذلك ديدن الرأسمالية منذ نشأتها الأولى، ابتداءً من القرن السادس عشر، ومن ثمّ تحوّلها إلى نظام دولي أوروبي، فنظام عالمي بانزياحها العنيف، عنفاً اعتباطياً ثم منظّماً، على الصعيد العالمي وراء البحار، باتجاه قارّات آسيا وأفريقيا وأميركا، وكذلك أوقيانوسيا (أستراليا ونيوزيلندا). من الهند والصين، إلى مصر والمنطقة العربية إجمالاً، مضت الرأسمالية العالمية تشيد منظومتها الاقتصادية ذات القوة الكليّة القدرة، عبر مئات السنين، من «التجارة البعيدة» في عصر الرأسمالية الزراعية والتجارية الناشئة، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، إلى الرأسمالية الصناعية المبكرة، فالمتقدمة، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ممتزجة في طورها المتقدّم بالرأسمالية المالية، منذ آخر القرن التاسع عشر حتى أعقاب الحرب العالمية الثانية، في منتصف القرن العشرين. تلك الرأسمالية المالية، رأسمالية المصارف الكبرى المشتغلة على نطاق كوني، بالإقراض الربوي، هي التي أطلق عليها لينين مسمّى «الإمبريالية»؛ وهي التي كانت سمة الاستعمار الكلاسيكي، ومن أبرز محطاته التاريخية في القرن التاسع عشر استعمار مصر بالرأسمال والديون وتأسيس الشركات.

وانظر إلى قصة إنشاء السويس، ثم احتلال مصر تدريجياً في عصر الخديوي إسماعيل والخديوي توفيق، تحت وطأة أزمة الديون، وصولاً إلى فرض الحماية البريطانية عليها، وسلخها من رابطتها الرسمية مع الدولة العثمانية، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، إلى بقية التاريخ المعروف. ولم ينقذ مصر من مصيرها كمستعمرة، ثم شبه مستعمرة بريطانية، سوى قيام ثورة 23 حزيران / يوليو 1952، كما هو معروف أيضاً.

مع ما يمكن تسميته بالرأسمالية التكنولوجية، خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، انطلق التوسّع الرأسمالي على النطاق الكوكبي، ليتكيّف مع «عالم ما بعد الحرب»، حيث انبثق مكوّنان آخران: المنظومة الاشتراكية السوفياتية، ومجموعة البلدان المستقلّة حديثاً في القارّات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ذات الزعامات التاريخية الناهضة، على غرار جواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر وأحمد سوكارنو وكوامي نكروما. ومنذ أول السبعينات، أخذت تعتمل متغيّرات في غير صالح معسكر التحرّر الوطني ذاك، والمنظومة السوفياتية، في الوقت الذي أخذت فيه المنظومة الرأسمالية العالمية تستغل قوة التقدّم التكنولوجي، وتوظّف قوة الدولة الاجتماعية وفق المذهب الكينزي، لتحقيق القوة بمعناها الشامل وتذهب بها، في الوقت ذاته، باتجاه التدخّل العسكري خارج الحدود والحرب. ثمّ إنّ هذه المنظومة الرأسمالية الغربية بقيادتها الأميركية، أخذت تتحوّل منذ منتصف السبعينات، بعيداً عن «الكينزية» باتجاه «الليبرالية الجديدة» ــــ النسخة الرديئة من الرأسمالية ــــ وتنشرها في عموم البلدان النامية، تحت مسمى «الإصلاحات» الموصى بها من صندوق النقد الدولي، وقرينه البنك الدولي. في الوقت نفسه، أخذت مسيرة التداعي السوفياتي تفعل فعلها، ومعها تراجع الصين ناحية الفوضى بُعَيْد وفاة ماو تسي تونغ، وقبل وفاته. وأصبح المسرح مهيّأً للانهيار التدريجي للسوفيات، وخصوصاً منذ أواخر الستينات، وكذا لانزياح الصينيين ــــ المتنازعين مع السوفيات منذ عام 1957 برغم وحدة المذهب الإيديولوجي ـــــ باتجاه الوقوع في «حجْر» الأميركيين بقيادة نيكسون ــــ كيسنجر، بين عامي 1972 ــــ 1973. حينذاك، تفاعلت قوة التكنولوجيا في الغرب الرأسمالي، مع قوة آلة العنف العسكري والحرب، لتصنع واقع الزعامة على الصعيد العالمي، في خضم التآكل السوفياتي ـــــ الصيني، وتصاعد النفوذ الإسرائيلي في أحد أهم مسارح الصراع القطبي على الصعيد العالمي، المسرح العربي والشرق الأوسطي، بعد حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973، ليتكوّن من كل ذلك نسيج للقوة جديد. وبالسقوط (الرسمي) للاتحاد السوفياتي عام 1990، والتحوّل الجذري ولكن التدريجي، للصين باتجاه التحالف الفعلي مع الغرب، تهيّأ الظرف «الجيوبوليتيكي» لتقدّم الولايات المتحدة الأميركية، ولتحتلّ موقع كرسيّها على العرش، بوصفها القوة العظمى الوحيدة Lonely super Power.

وعن طريق صيرورة النظام الرأسمالي، النظام الوحيد على سدّة القيادة للاقتصاد العالمي، تجارةً ومالاً واستثماراتٍ وغير ذلك، وصيرورة الولايات المتحدة قوة عظمى وحيدة، في ظلّ اختفاء السوفيات، وفي ظلّ خاصّ لاستمالة الصين حتى تحوّلت من عدو سابق جداً ومن خصم بعد ذلك إلى شريك استراتيجي، تُضخّ نحوه «الاستثمارات الأجنبية المباشرة» في شطرها الأعظم على الصعيد العالمي، وتُصوّب ناحيتها أعين الشركات العملاقة عابرة الجنسيات، تنقل إليها من عقر ديار أميركا وأوروبا مرافقها الإنتاجية والتكنولوجية، ثم لتصير قوة تصديرية عظمى باتجاه الغرب ــــ القديم الجديد، وتحلّ، بمعنى معيّن، محلّ شريكه وحليفه العتيد: اليابان.

هكذا، أصبح المسرح الاقتصادي ــــ السياسي العالمي، جاهزاً تماماً للتوسّع غير المسبوق في التجارة المتعدّدة الاتجاهات، والاستثمارات المعقّدة تكنولوجيّاً، عبر مسار لم يكن سابقاً يخطر على بال: مسار الصين ــــ أميركا، في ما قيل له من جانب البعض في لحظة ما: Chin America. امتدت منذئذٍ سلاسل للعرض السلعي والخدمي بين أميركا وآسيا وأوروبا، أو «سلاسل الإمداد» في تعبير آخر؛ و لكن آسيا هي في المركز والمنتصف، آسيا الشرقية بالتحديد، وقلب آسيا الشرقية الصين، ومن حول الصين ترتفع رؤوس أبرزها اليابان، وحواليْها تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها العديد. وهذه آسيا، تحتكر لنفسها الشطر الأعظم من حركة المبادلات التجارية والمالية وتدفّقات «الرساميل» والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة. ومع توسّع السلاسل تنتقل التكنولوجيا، ويرتفع معدّل النمو في تلك المناطق والبلدان من آسيا الشرقية دون غيرها حصراً إلى حدّ بعيد. فكأنّ السلاسل تحرّر البعض من القيود، بينما تسجن البعض الآخر وراء أسوار تحجب الاستثمار ومنافع التجارة وتدفّقات التكنولوجيا، ومع كل هذا: ضعف النمو.

إنه اقتصاد جديد، إذن، ولكنّه لم يوجد من العدم، وإنّما سبقه تاريخ طويل رعته الرأسمالية العالمية كما أشرنا، على امتداد قرون وعقود، لتعمّم اقتصاد المبادلة، وتطوّر من خلالها «مراكز» Centers، بينما يتكرّس التخلّف النسبي للأطراف Peripheries، بعيدة كانت أو قريبة. هذه، إذن، نظرية «المركز والمحيط»، التي أقامت بنيانها كوكبة من مدرسة فكرية نُعِتت بمدرسة «التبعية» ومعها «المركز والأطراف» و«التبادل غير المتكافئ»، من قبيل أعلام في مقدّمهم راؤول بريبيش وإيمانويل والرشتاين وسمير أمين، ولفيفٌ قليل. ولم لا؟ وقد حدّثت الرأسمالية عتادها المادي والمعنوي، بالتكنولوجيا والابتكارات و«البحث والتطوير»؛ جدّدت نفسها كما قال فؤاد مرسي. فليس بمستغرب، أن يُستعاد تجدّد الأفكار من جانب اليسار العالمي، ليعيد عرض أطروحة «التشابك» الاقتصادي الدولي، من مدخل «التطوّر غير المتكافئ» ذاته، الذي طالما تسيّد ساحة الفكر التنموي الدولي كأطروحة قابلة لاختبار الصدق الأكيد.

في هذا العالَم الاقتصادي، إذن ــــ عالم الربح ـــــ ومن منطق الرأسمال، عبْر منطلق الهيمنة الكونية واللاتعادل، ترعرع عالم «الليبراليين الجدد» الذين لا يبالون في سبيل تعظيم الأرباح بالبيئة أو الإصحاح البيئي، وبالمحيط الحيوي لعيش الإنسان، ولو تناوشت هذا الإنسان أخطار التغيّر المناخي، ونهشته مخاطر الأوبئة والمجاعات.

في هذا المحيط المسموم، نبتت وكبُرت ثم انتقلت فانتشرت، فيروسات «الإنفلونزا الآسيوية» و«إنفلونزا الطيور والخنازير» وعائلة الفيروسات التاجية من «سارس» إلى «كورونا»، فلماذا يكون العجب؟ ولكن لا عجب هناك؛ فمن فيروس الرأسمالية الرديئة، تولد جميع الفيروسات.

 

محمد عبد الشفيع عيسى، أستاذ في معهد التخطيط القومي بالقاهرة
الأربعاء 29 نيسان 2020