
لا مجرزة تبرر مجزرة ...
كتب الروائي المغيرة الهويدي / مدينة الرقة ـ سوريا : قُتل أهل الرقة على مرأى العالم، وارتكبت آلاف المجازر، من دون مبالغة، وسقطت صواريخ السكود وبراميل النظام، ثم تبعتها الصواريخ الروسية والفرنسية والأميركية والعربية بحجة محاربة الإرهاب. صواريخ وقذائف كانت تسقط في الوقت الذي كانت تعقد فيه مؤتمرات صحفية استعراضية في دول العالم لغايات سياسية لا تمت بصلة لمعاناة الإنسان المدني هناك، وليظهر فيها الجميع أبطالًا؛ الأخيار والأشرار، وينحسر أهل الرقة في دور الكومبارس في المشهد العام.
عائلات كاملة مُسحت من السجلات المدنية. بيوت ومدارس وأسواق دُمّرت بالكامل. مات الناس بكلّ أشكال الموت وأسبابه؛ حرقًا وغرقًا وعطشًا وجوعًا. وصُلب أبناء المحافظة على أعمدة الإنارة وفي ساحات الرقة، ثم قتل من بقي منهم من المدنيين الذين آثروا البقاء في بيوتهم بعد أن ضُيّق الخناق على المدينة، ولم يعد الهرب ممكنًا. صار أهل الرقة دواعش، وصار القضاء على داعش أولوية تتجاوز حماية المدنيين. ثم اشتعلت الحرب بين قسد مدعومة بالتحالف الدولي وداعش من جهة أخرى، وصار المدنيون ساحة حرب بشعة مات فيها من مات على مرأى العالم، واستخدمت فيها الأسلحة المحرمة دوليًا، ثم تم الاتفاق على تدمير المدينة لإخفاء الجريمة.. حرب قتل فيها المدنيون بحجة القضاء على الإرهاب، حرب بلا ممرات آمنة، ولا حملات إغاثة، ولا قنوات إعلامية تنقل الأخبار على أقل تقدير..
حدثت هذه الجريمة، وتواطأ الكثير معها خوفًا من تمدد داعش، أو أملًا بالخلاص من التنظيم، وصار الرقاوي داعشي حتى يثبت عكس ذلك..
أذكر جيدًا تلك الأيام، الوقت العصيب الذي عشته وأنا في الكويت، أتابع صفحات الفيسبوك لأقرأ أسماء أهلي في الضحايا، أصرخ من دون فائدة، وأخزّن الألم وحدي في عالم لا يتسع على اتّساعه لألمي؛ ألم الخذلان، ألم الصّمت، ألم العجز، ألم الذنب، ألم التجاهل، ألم اللامبالاة، ألم النجاة، إذا كان من الممكن توصيف البقاء بعيدًا نجاة بطريقة ما.
نحن أهل الرقة نعرف جيدًا معنى أن تُختزل حاجتك إلى التضامن، أن تقف في وجه جراحك سكاكين اللامبالاة والتجاهل والإنكار..
كانت الإساءة الأكبر لي شخصيّاً، ولأهل محافظتي عمومًا هو التجاهل والإنكار؛ أن يغض الآخر طرفه عن وجعك، أو يبرره بحجج لا ترضي أهل السماء، ولا ترضي أهل الأرض..
لذلك، فكلّ مجزرة تحدث في سوريا تذكّرني بتلك المجازر، أرفضها تحت أيّ مبرر، وأطالب بالتضامن مع ذوي الضحايا، وتقديم المساعدات العاجلة، والوقوف في وجه كلّ الأصوات المجرمة التي تسوغ المجازر..
لا دين ولا عُرف ولا كرامة إنسان تقبل بالظلم..
لا مجرزة تبرر مجزرة،
ولا مجزرة حتى لو أخذت شعبًا كاملًا قادرة على محو مجزرة!
المغيرة الهويدي، أديب وروائي عربي من مدينة الرقة ـ سوريا
حاصل على جائزة غسان كنفاني للرواية العرببة بدورتها الاولى عن روايته : "قماش اسود"
الأحد، 17 رمضان، 1446 الموافق 16 آذار، 2025
التعليقات غير متاحة لهذا المقال