
هكذا يتلاشى الحدّ الفاصل في العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة
العلاقات الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة تُعَدّ منذ عقود ركناً أساسياً في السياسة الخارجية الإسرائيلية
انطبعت زيارة دونالد ترامب إلى إسرائيل وظهوره الدرامي في الجلسة العامة للكنيست في الذاكرة كحدث استثنائي، ليس فقط بسبب أسلوب ترامب المبالَغ في فخامته، بل أيضاً، أساساً، بسبب الشعور بعدم الارتياح الذي رافقهما. يبدو أن إسرائيل، التي حرصت لأعوام على إظهار استقلالها السياسي والأمني، تُصوَّر اليوم أكثر فأكثر كدولةٍ خاضعةٍ للوصاية الأميركية. كما أن محاولات الإدارة الأميركية صوغ موقف إسرائيل في المفاوضات بشأن غزة، والطريقة التي ترسم بها لها مسار قول "نعم"، تعكسان النمط ذاته من التبعية اللطيفة، لكن المستمرة.
وقد أوجدت الاحتفالات، والتصريحات، والتصفيق الحار في الكنيست مظهراً من مظاهر الاحترام والتقدير، غير أن ما كان وراءها كشف عن واقعٍ آخر يتمثل في الانضباط السياسي تجاه واشنطن. وقد عبّر صهر ترامب، جاريد كوشنر، عن ذلك بصراحة عندما قال إن الرئيس يشعر بأن "سلوك إسرائيل خرج عن السيطرة، وحان الوقت لمنعها من التصرّف بما يتعارض مع مصالحها."
صحيح أن هذا لا يشكّل أمراً جديداً مطلقاً، فالعلاقات الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة تُعَدّ منذ عقود ركناً أساسياً في السياسة الخارجية الإسرائيلية؛ فالدعم الأمني، والمساندة الدبلوماسية، والرعاية الأميركية في الساحة الدولية، جميعها عناصر حيوية في أمن إسرائيل وصلابتها. غير أن التفاعلات المتبادلة في الأشهر الأخيرة تُشير إلى أمرٍ مختلف؛ ليس إلى شراكةٍ استراتيجية فحسب، بل أيضاً إلى هرميةٍ أيضاً.
إنّ حرصَ الحكومة الإسرائيلية على الاصطفاف شبه التامّ مع مطالب ترامب عزّز الإحساس بأنّ الحديث يدور عن علاقة تبعيةٍ أعمق مما أُقِرَّ به في السابق، فعندما يلقي رئيس أجنبي خطاباً في الكنيست، ويعرض قائمةَ توقعات أشبه بـ "شروط العضوية"، وتكون الاستجابة المحلّية انحناءةَ رأسٍ وشكرٍ بدلاً من حوارٍ سياديٍّ ناقدٍ كما كان الحال مع إداراتٍ سابقة، يتشكّل نمط يمكن أن يقوض استقلال إسرائيل السياسي.
وتتجلّى هذه الدينامية أيضاً في هذه الأيام؛ فواشنطن لا تملي على إسرائيل بصراحة كيف تتصرّف، لكنها رسمت لها طريق "قَوْلِ نعم" عبر ضغوطٍ غير مباشرة، وإشاراتٍ دبلوماسية، وأذرعٍ إقليمية. إنّ الإصرار الأميركي، منذ محاولة الاغتيال الفاشلة في قطر المتصلة بالمفاوضات بشأن إعادة الأسرى، ليس مجرّد مسألةٍ تقنية تتعلق بقناة اتصال، بل أيضاً هو جزء من منظومةٍ أوسع تهدف إلى دفع إسرائيل إلى تبنّي مخطط التسوية في غزّة.
ويُقدَّم الدعم الأمني الأميركي اليوم بصفته مشروطاً بـ "الاستعداد للتعاون"، وبهذا تحافظ على منظومة تبعيةٍ هادئة: ليست إكراهاً ظاهراً، إنما تربية مستمرة على قول "نعم" وفق إملاءٍ خارجي. وتجد إسرائيل نفسها أكثر ارتباطاً من أيّ وقتٍ مضى بالمصالح الأميركية، وأحياناً حتى بما يتعارض مع تقديراتها الأمنية أو السياسية. وإن الحماسة التي رافقت خطاب ترامب، والتصفيق، والاحتفال الإعلامي بـ "التكريم الكبير لإسرائيل"، كلها تخفي إحساساً أعمق بالحرج، وكأننا لم نعد بعد اليوم أسياد مصيرنا.
وفي الواقع العالمي للقرن الواحد والعشرين، ربما تبدو التحالفات والتبعيات أمراً لا مفرّ منه، وأنّ الإصرار الأميركي أحياناً ضروري من أجل "إنقاذ أنفسنا"، غير أنّه ما دامت إسرائيل ترى نفسها دولةً ذات سيادة، فعليها أن تعيد البحث في وضع الحدّ الفاصل بين تحالفٍ شجاعٍ وطاعةٍ عمياء، فالعلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة تُعَدّ أصلاً استراتيجياً لا بديل له، لكنّ هذا بالذات يستدعي رقابةً دائمة على التوازن بين إظهار الامتنان والتنازل عن استقلالية القرار. كانت زيارة ترامب تذكيراً بأنّ هذا الخطّ يزداد ضبابيةً يوماً بعد يوم، وإذا لم تُعِد إسرائيل رسمه من جديد، فربما تجد نفسها أمام سابقةٍ إشكالية: فيمكن أن ترى إدارات أميركية مستقبلية، بغض النظر عن معسكرها السياسي، في التبعية الإسرائيلية الراهنة نموذجاً مريحاً لإدارة العلاقات.
ترجمة مؤسسة الدراسات الفلسطينية
مركز الحقول للدراسات والنشر
الإثنين، 28 ربيع الثاني، 1447 الموافق 20 تشرين الأول، 2025
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
أضف تعليقاً