
"حرب الإرهاب" الأميركية ومستقبل "النموذج السوري"
إن إدارة الأميركيين لـ"حرب الإرهاب" تستلزم تجديد ديناميات "الحرب على الإرهاب"، وإلا فلن تبقى الشام والعراق في حالة "الفوضى المنظمة".
كتب محرر الحقول / خاص ـ الوطن العربي : غدت سوريا الجديدة مختبراً تطبيقياً لمراقبة أحد نماذج العلاقة السياسية والأمنية التي تجمع تنظيمات "الأسلمة" (Islamisation) المسلحة أو العزلاء في الدول العربية بالأنظمة السياسية في الدول الغربية. لقد تابعنا "نجاح" تلك التنظيمات، في الإمساك بسلطة الحكم بالإعتماد على "جمهور الشارع" في تونس وليبيا ومصر وحتى المغرب والسودان في العقدين الأخيرين. لكن "النموذج السوري" بقيادة تنظيم "هيئة تحرير الشام" جاء مختلفاً عنها. إذ اكتمل استيلاده في رحمة العفو السياسي المشروط الذي منحته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والإتحاد الأوروبي لـ"الهيئة" المدرجة على لوائح الإرهاب عندهم.
فهل هذا "النموذج" استثناء أم هو النتيجة العظمى للعلاقة الوظيفية التي تجمع الدولة الأميركية بـ"الإسلاميين" العرب، سواء السوريين أم غيرهم، ولا سيما تنظيمات الإرهاب التكفيري. وأن هذا "النموذج" يكشف "للمرة المليون" الجوهر التخادمي لهذه العلاقة :
ـ تمكين الأميركيين من إنجاز أهدافهم الجيواستراتيجية في الدولة المعنية، بدءاً من فرض برنامج الحكم الذي يناسب مصالحهم فيها.
ـ تمكين "الإسلاميين" من إنجاز البرنامج التاريخي لديهم، وفيه هدف واحد وهو الإمساك بسلطة الحكم في الدولة المعنية، واتخاذ برنامج الحكم الذي فرضه الأميركيون.
لقد تكفل الإجراء الأميركي ـ الأوروبي بنقل التنظيم الإرهابي من "مرحلة الثورة" إلى "مرحلة الدولة"، وأصبح ممسكاً بالسلطة السياسية، بعدما "انتصر" على الدولة السابقة والنظام السابق، وأصبح قائده الجولاني، رئيساً انتقالياً للجمهورية العربية السورية، باسم الرئيس أحمد الشرع. طبعاً، لا بد من ذكر الدول التي سهلت مخاض "النموذج" الوليد، خصوصاً تركيا وقطر و"إسرائيل" وبريطانيا، إلا أن أميركا تظل القابلة الرئيسة التي "سحبت رأسه"، مثلما فعلت حين ولادة "الحكم الإسلامي" في الدول الآنفة الذكر. إن "مرحلة الدولة" التي يديرها إرهابيون سابقون، هي ظاهرة جديدة تحتاج للتفكر اللامتماثل.
الثابت في هذه العلاقة هو استثمار الدول الغربية، وتحديداً الولايات الأميركية وبريطانيا كذلك المانيا وفرنسا في تغذية تنظيمات "الإسلاميين" وتوظيفهم في نشر التكفير في المجتمعات العربية بالإرهاب المسلح أو بدونه. خطورة هذا الثابت الجيواستراتيجي الإمبريالي أن الغرب في لندن وواشنطن وغيرهما يستولي في هذا الإستثمار على الدين الإسلامي، ويحرم الأمة العربية من الرأسمال الروحي الأعظم الذي تملكه. وهذا الثابت جلي في التاريخ الماكروي للعلاقة التخادمية بين "الإسلاميين" والكولونياليين فالإمبرياليين أيضاً. بل إن باحثة أميركية من أصول عربية وثقت ظهور تنظيمات "إسلامية" صهيونية، عملت مع اليهود الصهاينة في فلسطين المحتلة بعيد الحرب العالمية الأولى.
أما المتغير في هذه العلاقة فهم "الإسلاميون" أنفسهم. في الإطار الماكروي نفسه، نلاحظ أن دورهم يتضاعف أو يتناقص مع حجم الدعم الغربي الذي يتلقونه رأساً من واشنطن ولندن والغرب أو من طريق بعض الحكومات العربية او الأجنبية في الإقليم. وأن مبدأ العمل السياسي السلمي أو الإرهابي عندهم، هو اختلاق ثنائيات تقسيمية في المجتمعات العربية لفرض الـ"أسلمة" فيها. وهذه الثنائيات التي تبعد المواطنين عن مسؤوليتهم في إصلاح الدولة والنظام السياسي، تكون دينية بين الطوائف والمذاهب في أماكن معينة أو تصبح ايديولوجية صرفة بين "أتباع" الفكر الوضعي والنص الإلهي في أماكن أخرى. المهم لدى "الإسلاميين" هو "اغتنام" تمثيل "جمهور الشارع" لتبرير طلبهم سلطة الحكم من غير اكتراث لبرنامج الحكم المناسب.
في هذه المرحلة ووفق الشروط التي وضعتها واشنطن على الرئيس السوري أحمد الشرع، نجد أن الأميركيين وأتباعهم الأوروبيين ماضون في إدارة حرب الإرهاب باستخدام تنظيمات "الأسلمة" المسلحة منها والعزلاء، بحيث تظل سوريا والمشرق العربي تحت سياط "الفوضى المنظمة". ولذلك، قررت إدارة ترامب تنقيح السجل الإرهابي لتنظيم "هيئة تحرير الشام" وليس إغلاقه. وقد أوكلت إلى النظام الإنتقالي الحاكم مهمة تنفيذ هذا التنقيح بتصفية الأجنحة والمجموعات التي تطلب أميركا و"إسرائيل" التخلص منها. وهذا الشرط يحتمل، بالتأكيد، وقوع مواجهات مسلحة بين الغادر والمغدور.
ويبرز في هذا السياق اشتراط الأميركيين على دمشق، أن تتسلم كافة السوريين من عناصر وعائلات تنظيم الدولة الإسلامية /"داعش" المعتقلين في مخيم الهول، بدلاً من الميليشيا الإنفصالية الكردية/ "قسد". وعدد هؤلاء الأشخاص ينوف عن 37 ألفاً بينهم أطفال ونساء، وقد جرى احتجازهم تعسفاً لسنوات طويلة، ولم يقفوا أمام قضاء منصف ولم يعرضوا امام محكمة عادلة. واذا ما تحقق هذين الشرطين الأميركيين ستظهر نتيجة مزدوجة :
ـ من ناحية، يتخلص الإنفصاليون الأكراد، حلفاء أميركا ـ وفرنسا، بحسب تصريح الرئيس إيمانويل ماكرون ـ من وزر الظلم والإضطهاد الذي ارتكبوه ضد هؤلاء المعتقلين العرب السوريين ويلقونه على عاتق نظام الرئيس الشرع.
ـ ومن ناحية ثانية، سوف تنشأ كتلة ديموغرافية ـ سياسية في المجتمع السوري، تضم "الداعشيين" الذين كانوا في مخيم الهول، وكذلك "الإسلاميين" المغدورين الذين شاركوا في "مرحلة الثورة"، وباتوا خاضعين للتنقيح، أي للمطاردة والتصفية في "مرحلة الدولة".
إن إدارة الأميركيين لـ"حرب الإرهاب" تستلزم تجديد ديناميات "الحرب على الإرهاب"، وإلا فلن تبقى الشام والعراق في حالة "الفوضى المنظمة". لذلك، لا نستبعد أن تقوم واشنطن بإعادة توظيف "المغدورين" من نظام أحمد الشرع. مثلما حصل لحزب البعث الذي كان يحكم العراق. هناك، جرى تقسيم الكتلة العربية وتعبئتها إلى شيعة وسنة، لكي تفني بعضها البعض. في سوريا يبدو السيناريو أشد تعقيداً مع وجود أغلبية عربية سنية. هذه الأغلبية يجري تقسيمها الآن، بين معسكرين سياسيين : أنصار "الإسلاميين الغادرين" وهم في السلطة وأنصار "الإسلاميين المغدورين" وهم في "الشارع". وكلا المعسكرين المتخاصمين، سيكونان حطباً سياسياً وبشرياً محلياً يجدد دينامية "الحرب على الإرهاب" ويغذيها.
"إسرائيل الثانية"
في تاريخ "حرب الإرهاب" التي تشنها الولايات المتحدة الأميركية ومعها بريطانيا، لم تُستخدم قوى "الأسلمة" العربية وحسب، بل احتُطب ويُحتطب لها "إسلاميون" تكفيريون وإرهابيون من غير العرب. إلا أن نجاح التخطيط الجيواستراتيجي الأميركي في تشكيل النظام الإقليمي الشرق أوسطي وفي الدفاع عن نظام الهيمنة الأميركي الدولي المتداعي، يحملنا على التعمق في مقاربة هذا الموضوع أكثر. فمن خلاله نعاين "الدولة اليهودية" التي أقامها الصهاينة في فلسطين المحتلة، وهي تبذل موارد جسيمة في "حرب الإرهاب" الأميركية ـ البريطانية التي تشن على سوريا والمشرق العربي، حالياً. لأن ما يميز الأقلمة الشرق أوسطية في هذه المرحلة، هو تأمين ظروف قيامة "إسرائيل الثانية" واستعادة "التفوق شبه المطلق" في الإقليم، بعدما أزال طوفان الأقصى في فلسطين و"حرب الإسناد" من لبنان واليمن "إسرائيل الأولى" و"مزّق روحها".
في "حرب الإرهاب" التي تقودها واشنطن ولندن في سوريا لا بد من الإلتفات، خصوصاً بعد فتح طاولة التفاوض المباشر بين نظام الشرع و"إسرائيل"، إلى مصالح الرأسمال البنكي اليهودي في كل الأهداف الجيواستراتجية الأميركية. فـ"إسرائيل الثانية" تشابه بوضوح جلي، أوكرانيا المقسّمة تحت حكم القوميين الرجعيين، المؤتلفين في نظام زيلنسكي اليهودي الصهيوني. ففي هذه الدولة المنكوبة بمصالح الرأسمال البنكي اليهودي والغربي، يجري الدفاع عبر الحرب مع روسيا، عن نظام الهيمنة الأميركي الدولي، ليُحافظ على مكاسبه الجيوبوليتيكية التي حصّلها بعد نهاية "الحرب الباردة".
إن قوى "حرب الإرهاب" في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وعموم دول الغرب، التي تغذي "إسرائيل الثانية" بالمال والتكنولوجيا والعتاد الحربي والعديد البشري، لتُحارب سوريا ودول المشرق العربي، هي التي تغذي نظام زيلنسكي وتديم حياته أيضاً. تتصدر هذه القوى "بيوت المال" اليهودية مثل "روتشيلد" و"روكفلر" بالإضافة إلى "عائلات يهودية" أصغر تنتمي إلى سلالة الرأسمال الربوي. وهي توفر رؤوس المال المطلوبة للبيزنس العسكري، الذي تقوده شركات الصناعات الحربية القديمة والشركات الناشئة مثل شركة WestExec، التي تشكل قناة مفتوحة للتكامل التكنولوجي الإبتكاري والتطبيقي بين القطاع الحربي والقطاع المدني في كل من أميركا و"إسرائيل".
كما أن WestExec هي أفضل تجسيد لعمليات التداخل البنيوي بين هياكل النخب العلمية والسياسية والمالية والإستخبارية في أميركا والكيان الصهيوني، الذي يؤكد على التداخل العضوي بين الإمبريالية والصهيونية، من اجل جني الأرباح المالية بالإستثمار الكثيف في إنتاج الأسلحة والعتاد اللازم للدفاع عن نظام الهيمنة الأميركي والغربي. إن "حرب الإرهاب" في هذه المرحلة من التطور التكنوأمني، باتت تستهلك أسلحة وعتاداً كثيفة الرأسمال والتكنولوجيا الجديدة، لكن عائد الإستثمار مرتفع فيها، كما أن حركة دوران الرأسمال تجري بوتائر أسرع بكثير من بقية القطاعات الإقتصادية.
وبغض النظر عن تعاقب الإدارات الأميركية، فإن "حرب الإرهاب" هي وسيلة نافعة لتحريك الإقتصاد الإمبريالي. لقد كان الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب هو أول من اتهم إدارة الرئيس السابق باراك أوباما "بتأسيس" تنظيم "داعش" الإرهابي في عام 2016. وقد وزعت وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية هذا الإتهام، كما نشرت رد الوزيرة هيلاري كلينتون والمرشحة الرئاسية السابقة عليه. ومن الواضح أن نظام الرئيس الإنتقالي أحمد الشرع يستميت في تنفيذ الشروط الأميركية المطلوبة منه، بعدما أوصلته واشنطن إلى الحكم، وأزالت إسمه من سجل الإرهابيين المطلوبين للعدالة الأميركية. وقد تكون هذه الإستماتة بتوجيه من الرئيس التركي أردوغان، إلا أن ذلك لا يُلغي القاعدة الأساسية في هذا التخادم : يجلس على كرسي السلطة في دمشق من ترى واشنطن أنه يسرّع حركة وصول المال إلى خزائنها.
منذ ثلاثة أيام قال سيباستيان جوركا مدير مكافحة الإرهاب في "البيت الأبيض" : لأربع سنوات تحت ولاية بايدن لم نكن نقتل الجهاديين ولا الإرهابيين ولكن مع ترامب عدنا الى قتلهم. في مئة يوم من حكم الرئيس ترامب قتلنا 90 إرهابياً لتأمين الولايات المتحدة. لقد عينت واشنطن مبعوثاً خاصاً إلى سوريا. ثمة عدة سجون ومخيمات تتضمن مقاتلين وجهاديين أجانب وهناك اتفاق مع الجولاني لمنع استعمال الأراضي السورية من الإرهاب وهذا اختبار للحكومة السورية لمنع الإرهاب.
إن "النموذج السوري" غامض الملامح نوعا ما. "الإسلاميين الغادرين" في اختبار. ولسوف يستميتوا حتى ينجحوا فيه. ولكن من يحدد علامة النجاح فيه يُقيم في "البيت الأبيض".
منذ أيام كتب هارون ي. زيلين تقريراً عنوانه : "تنظيم الدولة الإسلامية داعش يستهدف الحكومة السورية الجديدة". الكاتب من فريق "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى"، وخلاصة التقرير أن خطر "داعش" قائم ولا يجوز تجاهله.
إنها قواعد "الفوضى المنظمة" في سوريا ...
مركز الحقول للدراسات والنشر
الإثنين، 23 ذو القعدة، 1446 الموافق 20 أيار، 2025
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
أضف تعليقاً