جورج مالبرونو؛ نوستالجيا الاستعمار والعنصرية
«حاولوا دفننا، لم يعرفوا أننا بذور» ـ مثل شعبي مكسيكي
كتب الأستاذ وليد شرارة / الحقول ـ بيروت : لا تعني مفردة «la bête»، التي استخدمها الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو، كتوصيف لحزب الله، في مقاله عن حرب الـ 66 يوماً في «لوفيغارو»، «الوحش» فقط. هي تكتسب معنى آخر عندما تستخدم في اللغة السياسية، مرتبطاً بالسياق التاريخي والأيديولوجي-السياسي الفرنسي، فتدلل على الشر المطلق، فيقال مثلاً «الوحش الحقير» (la bête immonde) عند الحديث عن النازية. الترجمة الصحيحة للجملة الخاتمة لمقالة مالبرونو هي التالية: «الوحش الشرير جريح لكنه لم يلفظ أنفاسه بعد».
درج الخطاب الكولونيالي الغربي التقليدي، في مراحل التوسّع الاستعماري الأولى، على نزع الصفة الإنسانية عن الخصوم، وأبلستهم و/أو إطلاق الصفات الحيوانية عليهم. اختفى هذا الخطاب العنصري البدائي من التداول بعد معارك الاستقلال الوطني التي خاضتها شعوب الجنوب في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وما نجم عنها من تحوّلات في المناخات الفكرية الدولية، ولجأ الغرب إلى معزوفات «حقوق الإنسان والقانون الدولي» كخطاب بديل.
غير أنّ حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة توازت، منذ لحظاتها الأولى، مع إطلاق القادة الصهاينة العنان لحملة عنصرية شعواء ضد الشعب الفلسطيني والعرب والمسلمين، تستعيد جميع مفردات الخطاب الاستعماري الفجّ، وتتلقّفها القطاعات التي تعاني من نوستالجيا الاستعمار في الغرب الجماعي المنحدر.
خط بياني واحد يجمع بين كلام وزير الدفاع الصهيوني السابق يوآف غالانت عن أهل القطاع باعتبارهم «حيوانات بشرية»، وما ارتكبه مالبرونو بحق حزب الله، مروراً باحتفاء بعض من وسائل الإعلام الغربي السائد بمجزرة البيجر على أنها نصر على الإرهاب. الوظيفة البديهية لنزع الصفة الإنسانية عن شعوب منطقتنا وحركاتها المقاومة، والتي أسهمت فيه وسائل الإعلام المشار إليها، هي تبرير أقصى درجات التوحّش بحقّها من قبل المعسكر الإسرائيلي-الأميركي-الغربي.
الأمر نفسه ينطبق على الاحتفاء بالمجازر المرتكبة بفضل آخر الابتكارات التكنولوجية لدول المعسكر إيّاه. لم يتورّع ترامب، في خطابه الأخير أمام الكنيست، بالإشادة بالاستعمال الإسرائيلي «المبدع» للأسلحة والذخائر الأميركية التي أرسلها بطلب من صديقه نتنياهو. استعراض القدرة الفائقة على الإبادة والتدمير الشامل كان وسيبقى الركيزة الأولى للهيمنة الغربية.
مجلة «ليكسبريس» الأسبوعية الفرنسية شاركت على طريقتها في هذا الكرنفال الاستعراضي عندما خصّصت، في الذكرى الأولى لمجزرة البيجر، غلافها لهذا الموضوع مع العنوان التالي: «الموساد: تحقيق عن أفضل الجواسيس في العالم»، مع صورة لجهاز بيجر. لا حاجة إلى الخوض في تحليل تفصيلي للمقالات التي تضمّنها الملف المذكور، والتي تعكس جميعها انبهاراً غير محدود بإنجازات الجهاز الإسرائيلي الخبير الطليعي في كيفية مواجهة المنظمات «الإرهابية».
وقد حرصت كاتبة المقال الرئيسي في الملف، ألكساندرا سافيانا، على طمأنة قرّائها بأن التعاون بين جهاز المخابرات الخارجي الفرنسي ونظيره الإسرائيلي في أفضل حالاته، رغم «الأزمة الديبلوماسية» بين إسرائيل وفرنسا، على خلفية اعتراف الثانية بـ«دولة فلسطين»، عندما أكدت بأن «ليكسبرس تستطيع الجزم بأن مدير الموساد، خلال الأشهر الأخيرة، التقى عدة مرات بنظيره الفرنسي نيكولا ليرنر، في تل أبيب وفي باريس، وكأن شيئاً لم يكن».
لا بدّ أيضاً من التذكير، في هذا السياق، بالافتتاحية التي كتبها دوف ألفون، رئيس تحرير يومية «ليبراسيون»، في اليوم التالي لوقوع المجزرة، والمعنونة «أمر غير قابل للتصور» (Inconcevable)، والتي كانت بمثابة بيان تمجيد بالعملية وبمنفذيها. ولمن لا يعلم، فإن دوف ألفون يحمل الجنسية الإسرائيلية وخدم في الوحدة 8200، وألّف في 2019 رواية بعنوان «الوحدة 8200» صدرت عن دار «ليانا ليفي» في باريس.
تتناقض هذه الحملة العنصرية الشعواء، والتي تمثّل نوعاً من الثورة المضادّة الكولونيالية على المستوى الأيديولوجي، مع مواقف قطاعات متّسعة من الرأي العام الغربي المؤيّدة لفلسطين، وبشكل متزايد، ولحقّ شعبها بالمقاومة بجميع الوسائل للإبادة والتطهير العرقي. يأتي هذا التناقض ليعمّق الشرخ المتعاظم بين نخب سياسية وثقافية غربيّة تنزلق نحو الفاشية، وقوى سياسية واجتماعية تناهض مثل هذا الخيار الكارثي بالنسبة إلى مستقبلها ومستقبل بقية شعوب المعمورة غير الغربية.
يعتقد الفاشيون الجدد أنّ ابتكاراتهم التكنولوجية كفيلة بالإجهاز على مقاومات شعوبنا، ودفن تطلّعاتهم إلى الاستقلال والعدالة. عبثاً يحاولون. وكما قال أحد رموز لاهوت التحرير، والثائر السانديني في نيكارغوا، الأب أرنستو كاردينال، تعليقاً على قيام الديكتاتور سوموزا بقتل الضابط الوطني أدولفو بايز بون ومجموعة من رفاقه، الذين حاولوا الإطاحة به: «حاولوا دفننا. لم يعلموا أننا بذور».
استعاد كاردينال آنذاك مثلاً شعبياً مكسيكياً هو في الحقيقة مثلٌ يردّده أبناء السكان الأصليين الذين تعرّضوا لشتى أنواع القتل والتنكيل منذ غزو المستعمرين الغربيين للقارة الأميركية، ولكنهم قاوموا مساعي الإفناء، وعادوا اليوم ليسهموا في تقرير مصير وسط وجنوب القارة رغماً عن إرادة المستعمرين ووكلائهم المحليين.
وليد شرارة، صحافي ومفكر ومناضل عربي من لبنان
مركز الحقول للدراسات والنشر






















التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
أضف تعليقاً