2025-06-09
Alhoukoul
جاذبية الوقوع في التغيير

جاذبية الوقوع في التغيير

ترتسم ملامح سيرة ذاتية في هذا النص. مثل هذه الشهادات على حياة أو حيوات الأشخاص الفاعلين في النخبة المجتمعية في بلادنا، تمنح منهجيات التاريخ الميكروي مادة علمية غنية ومفيدة. فمن خلال السير، لا سيما التي يكتبها أصحابها بأنفسهم، وفي كامل عافيتهم، كما هو الحال في هذا النص، تنتعش كتابة التاريخ الماكروي أيضاً، لأن أصحاب السير، يمنحون القراء حق الدخول إليها ومناقشتهم فيها.

29-05-2025

كتبت الأستاذة منى سكرية ـ الحقول / بيروت : في الذاكرة المخبوءة خلف سنوات ما تزال تمضي، ثمة قفزات لصورٍ تنبشها خلايا الدماغ، فتروح تستعرض حضورها على شاشة اللحظة، سواء كنّا متأهبين لاستذكارها، أو في تجنّبها، تبعاً لما نَكونه.

واحدة من إشاراتالإطلالة الأولى في سنوات الطفولة، في بدايات تشكُّل حس الإنتباه، ووقع البصر على المواد المُتاحة، لحظْت أوراقاً متسعة الحجم، تتسطّر على صفحاتها صورٌ، وكلمات باللون الأسود، تُصدِر خشخشة عند الإمساك بها، مما يرفع منسوب الإغراء في "اللعب" بتمزيقها. كان المشهد طلسميّ أمام ناظري الفتاة الصغيرة، ولكن،ما أن أخذت تفك حروف الهجاء حتى تسنّى لها قراءة أسماء الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، والشهرية. فكانت بدايات وعي احتمالي على أسماء صحيفة "الأنوار" اللبنانية اليومية المؤيدة لسياسة/تنا الناصرية، وصحيفة "المحرر" اللبنانية اليومية الملتهبة بعروبة فلسطين، وقلّما صحيفة "النهار" اليومية اللبنانية، وكانت تنطق بما يخالف أهواء العائلة ، ودائماً مجلة "الحوادث" الأسبوعية، والتي بسببها نشب خلاف ضمن أفراد البيت وتمثّل برؤية الوالد الرصين في التقييم والتجربة، والأبناء الشبّان المأخوذون بأحلام الثورة والتغيير. فالمجلة تنقّلت سريعاً في توجهاتها السياسية بعد هزيمة العام 67 فكان التناحر بشأنها من أولى مشاهداتي للنقاش و(حرية قمع النقاش!) والتمرد. أما مجلة "العربي" الكويتيةالشهرية الصدور فكانت تحتل صدارة إهتمام الوالد، وكل من يود استعارتها، وكانت تستولي على قلوب قارئيها، فالمجلة تنقلهم في أرجاء وطن عربي يؤمنون به، يحلمون بتقاربه دمجاً واندماجاً أو إدماجاً بقوة الرغبة لا بمنطق التبصُّر الحضاري.

في البيت، وعلى مرمى بصر الفتاة الصغيرة التي صارت تكبر مع تعداد السنوات، وطي ورقة روزنامة 7 تموز من كل عام، كانت عناوين مجلات ثقافية وسياسية تأتي من مصر خاصة، ولم تكن تستميل الفتاة لاصفرار لونها، وتُرَابيته أحياناً، ولافتقادها الصور الملونة، وأيضاً لكلماتها المرصوصة سطراً لصق سطر، مما يًضجر النظر وفلفشة الورق، باستثناء مجلة روز اليوسف ملونة الغلاف.

وفي مكتبة الوالد شبه المنقرضة بمحتوياتها لأكثر من سبب وأبرزه الإعارة التي تدخل المتاهات، فكانت مجلات الرسالة، الحارس، المقتطف،الهلال الخ.. فالوالد سبق ونال شهادة البكالوريا الفرنسية من مدرسة اللعازارية في الشام العام 1933 وبدرجة إمتياز.

في هذه الأجواء، تدرّج الوعي المغاير للفتاة المتطلعة بهدوء إلى سنوات تطوي سنوات. تستمع، وتلتقط ما يدور، وكان كالسيل المتدفق من شتى الجهات. ففي البلد ثمة أيام للهدوء، وغالبية أيام السنة للأزمات. دورات انتخابية نيابية لم يتوافر فيها الحظ للوالد، لكن الحديث حولها وما حملته من تزوير كان محركاً وفاعلاً في المتابعة النفسية وبدايات تشكُّل الوعي، وإدراك معنى من "نحن"، ومن "الآخر"، ومن هم أؤلئك من الأسماء "المقيمة في المناصب".. ومن هذه الأجواء، بدأت رحلة المواكبة لكل طارئ تستطيعه قدرات الفتاة المتدرجة بسنواتها أن تستوحيه، وتستوعبه، أو تقلده كالببغاء.

                                   *****************

 أذكر أن والدي رحمه الله سألني وكنت لم أتجاوز أعوامي العشرة عن الاختصاص الذي أنتوي دراسته، فأتى جوابي سريعاً ومليئاً بشعور الفرح العفوي، وبصوت عالٍ : بدي أعمل صحافية متل فلان وفلانة من الأسماء التي كانت تلفتني في الصحف. أقول الأسماء، لأن المضمون لم يكن قد أخذ حيّزاً بعد. وبمثل السرعة التي أجبت بها كان رد والدي الفوري بأن الأمر يدخل في دائرة الممنوعات.. لكنها الحياة، وتطورها، وتعاقب ظروفها، سواء قررنا ما نريده، أو قررت عنّا ما تبتغيه، إذ بعد هذه الواقعة المُغلّفةبنبرة القمع، وبعد اجتياز البكالوريا-قسم ثاني كان الدخول إلى كلية الاعلام- فرع الصحافة في الجامعة اللبنانية، وبتشجيع وتفهم من الوالد.. كأنما ظروف الحرب الأهلية، وتشتُّت أسباب التخطيط الذاتي، وترك الأمور ترسم مسارها، - أقول - كأنها لعبت دورها الأبرز في هذا الاختيار.

                           ********

لطالما سألت نفسي، لو لم تحصل الحرب الأهلية (1975-1990) في لبنان، هل كنت لأكون أنا في الكثير مما في صفاتي، سلوكياتي، بناء وعيي الذاتي، اختياري مهنتي؟ أو هل كانت علاقة تبادلية في الأخذ والعطاء بيني وبين سنوات الحرب الأهلية، ويومياتها؟ وبالتالي، صرت ما أنا عليه من تكوين ماضٍ خاص بي يحتل سنوات عديدة من عمري وذاكرتي، وأحاديثي، ومرويات قصصي، و"نُصْ الجنون" الذي أعْشَقَني مهنتي؟ هل اجتاحت تلك السنوات وتأثيراتها، وامتدت بي؟ بداخلي؟ أم أن ما تشكّل بعدها من نظرة ناقدة لنتائجها وخلقت مرحلة جديدة في متابعتي هي التي صْرتُها؟!..ولطالما شعرت بمنسوب عالٍ من الحرية. لم أكن أميل إلى أي فكر عقائدي يُحدْ من حرية سؤالي. وكنت باكراً أحب التفلت من القيود الفكرية/الحزبية الضيقة، والتمسك فطرياً بقناعة أن لا جواب نهائي عند طرف لوحده. وما أزال.

إلى كلية الصحافة/ بداية تحقيق الحلم

ساهمت سنوات الحرب التي سبقت نيّلي شهادة البكالوريا – القسم الثاني التمهيد لدخول المرحلة الجامعية، في تزويدي بشذرات (نتاتيف) من قاعدة معرفة ، أو بِساط اطلاع يعوزها الداخل إلى رحاب كلية الصحافة، وحفنة من عناوين كتب متوزعة المضامين قد قرأتها بتشجيع من الوالد، مع حثّه الدائم على ضرورة تقديم تصور حول ما فهمته من قراءتي لهذا الكتاب أو ذاك، مع تشجيعه للحس النقدي الذي كان يمتلكه، وكان بداخلي ومن مكونات شخصيتي بما فيها أسئلة الدين غير التقليدية.

تماهت سنوات الجامعة مع وقْع سنوات الحرب الأهلية والاقتتال وأخبار المعارك المتنقلة، والتهجير المُتبادل، وعمليات  الخطف، والاعتداءات الإسرائيلية المتمادية وخاصة على جنوب لبنان، والطرْق اليومي لآذاننا بتقديم السرديات المتغايرة والمتناقضة، وشدّ العصبيات، ووقوع الضحايا، واشتداد الأزمات.. كلها تغلغلت في نسيج تكوين روايتي الأولى الخام، وسيطرت –إلا من حس نقدي أملكه(أو يملكني) فلا أساير- أو كادت تسيطر تبعات تلك الحرب على النظرة الواحدة في التقييم.. أما الذي منع تسلُّل التغلغل ذاك، فمرده إلى –كما ألمحت – إلى فضاء من حرية الفضاء العام المحيط، وأشياء من دوافع ذاتية، وفي طليعتها تبني قضية مظلومة بكل المعايير، وموقف ثابت من عدو لم يتغير، لا بل، ازداد وعيي الإنساني/الأخلاقي/القيَميّ بخطورة هذا العدووممارساته الإبادية بحق أبناء الشعب الفلسطيني، وبحق كل من تستطيع يداه أن تلحق به مجزرة.

إنقضت سنتي الجامعية الأولى، وللتوّ بدأت العمل في وسيلة إعلامية لا تحمل ترخيصاً، أو امتيازاً كما يسمى، وكانت جميع الأحزاب على الساحة يومها تمتلك إصدارات بلا تراخيص. كانت مجلة تنتمي لما أنتمي إليه من أفكار تتجسّد فلسطين في قلبها. ولأن بيني وبين القيود حالة عداء، فإنني اخترت في عملي المهني ما يسمى بالتحقيق الميداني. ولأنني أحمل في عقلي بذور السؤال فاخترت الحوار أوالاستفزاز الإيجابي.


                   ****************

لا أبالغ أن قلت أني عقدت حلفاً مقدساً مع مهنتي في الصحافة المكتوبة. كرّست لها وقتي، وتكرّست في خدمتي. حالُنا واحدٌ تحت القصف العشوائي، وفي الأزقة بين عناصر الميليشيات المتحاربة دونما أفق تغييري، الأمر الذي استنتجته بعد سكوت المدافع، وتسوية التسويات وكأن شيئاً لم يحصل ودماء لم تُسفك، ومفقودون ومخطوفين ما يزال مصيرهم مجهولاً، وأنّ أسياد الحرب تسنّموا مرحلة السلم.. عَجَنتني مهنتي، وعَصَرْت دقائق عمري حبراً على أوراق كيفما كانت شكلاً ولوناً و"عالجهتين". حبراً كان يلصق بأصابعي بلونه الأزرق الغامق، بديلاً لطلاء الأظافر، كأنه عرق الجبين مكافأة. حقيبتي اليدوية كانت لمجموعة أقلام، وأوراق. فالمهام دائماً كانت طارئة عندي.. عشقت مهنتي، وأحببت نقل الوقائع الميدانية، كانعكاس لشعوري الإنساني في رفض الظلم وغياب العدالة. وكم استوقفتني أوضاع هؤلاء. تبادلت ومهنتي اختبارات الحياة وقوانينها وأعرافها، واكتشفت، وتأكدت، أن شبراً من برامج التغيير لن يحصل في لبنان، وأن عصبيات الطوائف قاتلة في أيام السلم كما في حروبها المتجددة كل ثلاث حقبات من تاريخ هذا الوطن.. واكتشفت، وتيقّنت أن حرية الإعلام في لبنان مدفوعة الأجر(إلى حد كبير) والانتماءات وتبادل المصالح..وأن تصنُّم الواقع العربي مُتجذّر وبنيويّ!

في يومياتي أتقنت أسلوب الكتابة على الورق قعوداً ووقوفاً، أو تحت المطر، وفي انتزاع الورقة التي امتلأت وبلمح البصر لإحلال أخرى مكانها، وهكذا إلى أن أفوز بتغطية شبه حرْفيّة لما قيل وسمعت ورأيت. أذكر أن الورق المُستخدم بين أيدينا كان لونه أسمراً، وسريع العطب، هشّاً، ويتمزّق تحت صرير قلم الحبر الناشف. لكنه كان الحبيب إلى القلب. إلى أن توافر لنا الورق بلونه الأبيض والمتين، فكان حبر القلم يشحط سريعاً فوق بياضه فأطلقنا عليه قلم القصاص (المدرسي). لطالما تكدّست الأوراق المكتوبة بالحبر الأزرق الناشف بعضها فوق بعض وبكمية ملحوظة بين يديّ، لا سيما أثناء تغطيتي للمؤتمرات، وإجراء الحوارات مع رجالات السياسة، ولم أكن أرضى بمقابلة أقل من صفحة جريدة كاملة!. ولطالما حَصَلت طرائف، في تكرار استخدام شريط التسجيل إلى درجة المحو، أو في استخدام شريط مسجلة عليه أغانٍ فكانت تنتهي عبارات رجل السياسة لتنطلق زغرودة غنائية !!

الثورة الرقمية التي اجتاحتني

كان زمن الورق والحبر الناشف مرجعيتي في علاقتي بمهنتي، وقد تجذّر ذلك في وجداني، فكنت لا أكاد ألتفت إلى بدايات اجتياح عالم الثورة الرقمية، والتي لم تكن قد أخذت مساحتها في الحضور بعد، أو في التداول المريح كأدوات متطورة في تسعينيات القرن الماضي. كانت تلك الأدوات مقصورة على القسم الفني في المؤسسة الصحفية حيث أعمل.وكنت أبدي خشية من عدم قدرتي على دخول عالمها، أواستيعابها، والسير بركابها. وكنت أتلطى خلف عشقي الأبدي للورق والقلم.

توجّست بداية، وتأفّفت، وكدت أبقى على عنادي من الاقتراب من عالم الحواسيب، واللوائح الرقمية والنقر على مفاتيحه، خاصة، وأن عقداً من الزمن عشت خلاله تقطعات في ممارسة المهنة، كانت شبه رمادية في التولُّه المهني، وكان لها أثرها في قراءتي للعلاقات الانسانية/المهنية/الاجتماعية، وكانت قراءة جديدة كليّاً. مرحلة رماديةلم يترك الحبر لونه على الأصابع، ولا ورق استنْفِدَت كمياته، ولا مرحلة التعلم الجديدة قد بدأت في عالم هذه الثورة الرقمية..

على هامش هذا التقطُّع المهني، ورمادية وظيفته، إذ لم تكن عملاً، ولم تكن بطالة!؟ لا بد من التوقُّف أمامها. لقد كانت مرحلة من تقطيع الوقت، النفسي، التأملي، استطلاع ما "أخفـت الصدور" إن أمكن ذلك. وللتوضيح، تلك كانت مرحلة بداية لنهاية مرحلة الحلف المقدس بيني وبين الورق والقلم وضغط العمل. وهذه البداية اشتملت على طقوس جديدة مهمتها المراقبة للذات وللآخر، واسترجاع كميّات من "الهبل" الصادق لإعادة قراءة ما كان بين سطورها.

في مرجعية المهنة المكتوبة بالقلم على الورق ،أو لنقل "مرجعيات"، إذ أن تركيبة التسلسل الهرمي ما بين الصحافي ومرؤوسيه كانت تمر في هذه التراتبية. ولأن الإنسان من لحم ودم، وقلق وطمع وحسد ومحبة وكراهية تضمر ما تظهر، وعقل يحتوي خليط من تراكيب الخطط الانقلابية ووضع العراقيل، والتسامح والتسامي، ولأن التراتبية كانت تتفاوت نفوس متقلدي مناصبها في حقل العمل، فكان سير الأمور يخضع لتلك الأمزجة، بما فيها سهولة القرار بإبعاد الصحافي الناجح لمصلحة "أطماع شخصية ضيقة".. فضلاً، عن تظبيط التحالفات وفقاً للأهواء والانتماءات والتقارب المزاجي. وكل هذه السلوكيات كانت تلعب دورها في تفكيك ساعات العمل اليومية المتبادلة بين أمزجة هذا وذاك من الأعلى رتبة إلى ما فوقه رتبة، وهكذا.. ولم يكن يشفع أحياناً، - وبالإثبات الشخصي – أن عودتي من مكان انفجار سيارة ملغومة في منطقة ما وقربي مصادفة هناك، وانتزاعي للتو قلمي وأوراقي، ثم عودتي إلى المكتب لكتابة مشاهداتي الميدانية، أقول لم يكن يشفع هذا التماس مع الموت من أنني سأخضع لمزاج مسؤول ما وبالتحالف مع زميل يعتريه الكسل بأن يُصار إلى تطيير توقيع إسمي عن التقرير بحجة أن إسمي يبرز يومياً على صفحات الجريدة!!.

 في مرجعياتي "الورقية" وقبل حلول المرجعية "الرقمية" مكانها، كانت الدفاعات النفسية والعصبية شبه يومية في الموازنة بين هذه العلاقات. فما بالكم، عندما ترسم ضغوطات اللحظة السياسية أو الطارئ منها خطوط التماس بين الطاولات وطبقات المبنى، واستنفار الميول، والتمرير من خلف الظهر..

للتوضيح أيضاً، أن هذه الإشارات إلى الجانب السلبي من علاقات العمل اليومية وتراتبية المرجعيات لا تعني ضعف الجوانب الإيجابية، والتي كانت تستدعي القيام بواجبات احترامالزمالة ، وبناء الصداقات، والعيش في لحظات التقاتل في الأزقة القريبة من مبنى الجريدة مما يرفع الكلفة بين التراتبيات، فالخوف يجمع، وشعور دنوّ الموت يشفع، والهدنة استحقاق لا بد أن يقع.. كانت المرحلة "الورقية" مصهراًللعلاقات البشرية، وطاحونة للإرادة والضعف، وقوة التحدي للاستمرار، أوهذال المواجهة والركوع.مرحلة استكشاف النفوس، وما تركته من محطات تبقى جميلة في تكويني الشخصي، وحيّة في ذاكرتي، ووضّاءة في روحي، ومحبتي لما مضى. مرجعيات الفترة "الورقية" كانت صورة مصغّرة من مخفر ودار لرعاية الأيتام وملتقى فكري ومشغل حياكة. تحوط بها كيفيات التعامل الإنساني، وقساوة الطمع الإنساني، وشهامة المحبة الإنسانية ومكر اللحظة العبثية.

               ***************

بعد فترة التقطعات في المهنة، بدأتْ مرحلة جديدة في عملي المهني، وأعني بها العمل كمراسلة صحفية لصحف عربية تصدر في عواصمها، فكانت تباعاً "الوطن" السعودية (2000)، "الوسط" البحرينية" (2003)، و"أوان" الكويتية 2007- 2010)، فكان لا بد من تطور ذاتي يخدم قيامي بواجبي المهني، فاكسبتني مهنة المُرَاسَلَة خبرة تختلف عن الأسلوب المهني المحلي، واضطرتني ظروفي الجديدة إلى اللحاق بأدواتها فأدخلت جهاز الفاكس إلى البيت، ثم بدأت بإرسال الرسائل المطبوعة بالبريد الألكتروني ولكن عبر المقهى المجاور للبيت، وأخيراً كان "شر لا بد منه"، فتسجلت في دورة تعليم على استخدام الكمبيوتر والكتابه بواسطة مفاتيحه. وتباعاً، ومع كل اكتشاف مُبهر في عالمه، صرت أنسى "الحبيب الأول". وبدأت مرحلة تقنية  الكتابة/الطباعة بواسطة مفاتيح الكيبورد، وإن أخذت أصابعي وقتاً طويلاً للانتقال من استخدام الإصبع الواحد، إلى الثلاثة من كل يد.

إذاً، هي مرحلة جديدة في مرجعية عملي، تخلو من تراتبية المسؤوليات الما فوق، وبعيدة عن "سلطويات زائفة". لقد حررتني مرجعيتي الرقمية من جوانب كثيرة، وإن أبقت على المرجعيات في العالم الافتراضي. ساعدتني في التوسع في اختيار عناوين العمل والتزود بالمعلومات حوله من مواقع النشر الالكترونية التي أحدثت ثورة حقيقية في عالم هدم جدران المعرفة. مواقع نقلتني إلى مكتبات في العالم، وإصدارات دور النشر، والمجلات على تنوعها وأصنافها، وإلى عوالم الأخبار العاجلة، والسياحة، والمعلومات الصحية/الطبية الأولية، وفنون الطبخ والأزياء، والموسيقى، وتقاليد الشعوب وتراثها منذ ما قبل الميلاد، إلى أحدث الثورات في عالم المفاهيم وفوضى المعلومات وتناقضاتها، وأدبياتها، المقبول منها والمرفوض، المزيّف منها أو الحقيقي. عالم ما نزال نعيش في ارتدادات ثورته الرقمية، وفيه وخلاله وصولاً إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي وما تثيره من جدل ومخاوف ومخاطر وربما حروب (الأرجح) في مجال سيطرة الدول وصراعاتها كسباً للحفاظ على مصالحها ورفاهها المادي، والشواهد قائمة في هذا التعيّين، فالشرائح الألكترونية صارت عنواناً لهذا الاحتراب الاقتصادي/العسكري/المالي/ الثقافي/ الفكري/ الهجومات السيبرانية/القرصنة/الابتزاز والتزوير الخ ..

                  *********************

طرائف عديدة تمر في الذاكرة، لكن مقارنة ضرورية في هذا المجال لا بد من التوقف أمامها، لأنها تختصر عالمين، وميدانين، وحقبتين، واكتشافين في حياتي المهنية، تخلّلها، ورافقها وتلاها الكثير من خصوصية النظرة إلى عالم التطور. فمن بين ميادين تغطياتي للمؤتمرات في لبنان أو في الخارج، سأتوقف عند محطة دمشقية كمقارنة للحال التي أشرت لها.. عندما كنت في عملي اليومي، وخلال تغطية المؤتمرات التي كانت تشهدها العاصمة السورية دمشق، وواكبْتَها بغالبيتها، كانت الأوراق تتكدس بين يدي، لا يشفع للتفريق بينها سوى الترقيم في أعلى الصفحة، وكنت أعمد إلى تأخير إرسال أي تغطية إلى ما قبل منتصف الليل بقليل، تحسّباً لخبر قد يطير من تحت ناظري، أو معلومة، أو لأن غالبية المؤتمرات العربية لم تكن تنهي أعمالها إلا في وقت متأخر من الليل. كنت أحمل هذه الأوراق المكدسة، وأعطيها بكل أمانة لسائق التاكسي في الموقف المخصص لسيارات النقل الخارجي في محلة البرامكة في دمشق. أعطيها لأي سائق كان يريد الإنطلاق فوراً إلى بيروت، فكنت أعطيه هذه الأوراق/الأمانة، شريطة أن يقبض أجار نقلها لدى وصوله إلى مقر مبنى جريدة "السفير" أول نزلة السارولا. وهكذا كانت تسير الأمور بالتعب والسهر وشدّ الأعصاب خوفاً من التقصير او تفويت الفرص، أو إقفال طريق ضهر البيدر بالثلوج أو بالقذائف ..

***************

في حقبة استخدام النقر على مفاتيح الكيبورد، كنت أعمل مراسلة لصحيفة "أوان" الكويتية، فانعقدت القمة العربية في العاصمة دمشق العام 2008 وتم تكليفي بتغطيتها. تأهبت مع دفتر ورقيّ صغير الحجم، وآلة تسجيل بالشريط الموديل القديم، وأقلامي، لأنها قرطاسية تسجيل الملاحظات السريعة قبل فضّها بصورتها النهائية كمقالة بواسطة الكمبيوتر. طبعاً كانت إدارة التحرير في الجريدة قد أوصتني بعدم التطرق إلى تغطية الكلمات المنقولة عبر أقنية الفضائيات المرئية، ولا إلى تصريحات المسؤولين المبثوثة عبر وكالات الأنباء، وأن مهمتي فقط كتابة تقرير خاص..

بعد حضور افتتاح المؤتمر/القمة، والكلمات التي ألقيت، وحصولي على بعض تصريحات/مواقف خاصة بي، رغم أن الكلام عينه كان يدلي به هذا المسؤول وذاك لجميع هذا الحشد الإعلامي غير المسبوق في التغطية، ولأسباب عديدة، كان أبرزها، توتر العلاقات العربية مع سورية بعد انسحابها من لبنان العام 2005.

عدت إلى الفندق حيث الإقامة، إلى جهاز الكمبيوتر في إحدى قاعاته لكتابة/طباعة الرسالة. وبعد أقل من ساعة كنت قد انتهيت من تقريري الخاص عن المؤتمر، وبنقرة واحدة عبر البريد الالكتروني غابت عن عيوني صورة التقرير.

شعور يقبع في ذاكرتي، ولطالما تذكرته بذات الدرجة من الاندهاش الصامت الذي أصابني حينها. وأصابني بالإرباك أيضاً، وبجردة حساب أقلقتني، فسألت نفسي هل أنني مقصرة في التغطية، نظراً لمقارنتي السريعة مع تلك الأوراق التي كانت تتكدّس بين يدي. شعرت يومها أنني لم أشعر بالتعب، ولا بقلق إرسال الرسالة في آخر الليل. شعرت أن نقصاً ما أصاب عشقي للمهنة. فلا حبر على أصابعي أو ثيابي. وأن الوقت المتاح للفراغ أكبر من ذي قبل، وأن الوقت اختصرت سرعته لوحة كيبورد، وعالم الشبكة العنكبوتية المخفي عن أعيننا..

ظروف التطور كانت بالمرصاد قبولاً أو رفضاً، نعيشها، وتخلق لنا ذكرياتنا، ومفاصلها، وهكذاتسلّلت إلى أصابعي سهولة ملامسة المفاتيح والنقر عليها كأنها آلة موسيقية، وكأنها مساحة نكتب عليها ونمحي،ثم نمحي ونعيد كتابة أي حرف نريد تصحيح مساره ومعناه ووضعه في مكانه الصحيح. وبذات السرعة التي أتقنتها في كتابة ما أسمعه على الورق، اكتسبت هذه السرعة في طباعتها سماعاً على لوحة المفاتيح .

لقد عشت بين عالمين في مهنتي المكتوبة، كنتها أنا. وفي الحالتين، تحددت صداقاتي ومعارفي وعلاقاتي،وأبقيتها شبه افتراضية على كثرتها وتنوعها، الأمر عينه في العالم الافتراضي حيث أتيحت لي كما سواي أبواب وآفاق وعناوين، لكنها بقيت افتراضية بالرغم من أهمية اتساع عالمها المعرفي.. إنه عالم الثورة الرقمية الذي بات مرجعيتي كأنه "الصديق الخائن"، إذ أتاح لي الاحتفاظ برقمنة مقالاتي، وأخذت كتبي الورقيةمكانها في النشر على المواقع الألكترونية،كما ساعدتني بنقلها إلى أماكن بعيدة جغرافياً قريبة بلمسة إصبع، فتبادلنا الصداقة والمعرفة والاطلاع، ومكّنتني من قراءة آخر إصدارات الكتب على مواقعها خاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي ألمّت بنا وآلمتنا، وارتفاع كلفة استيرادها. الثورة الرقمية وسّعت من دوائر متابعاتي اليومية، وقرّبت مشاعري/نا واستطاعت إنزال دموعي/نا أمام لقطات مشاهد معاناة الأطفال والنساء في الحروب والفقر، وهمست في سمعي/نا أنين المعذبين أينما سكنوا جهات الأرض الأربع. عالم الرقمنة وقد صار فينا وصرنا فيه بلا انفكاك، نحمل أدواته وأجهزته كأعضاء من تشكيلة بنائنا الجسدي/العقلي، بالرغم من حالات الغدر التي يقترفها بحقّنا، إذا لطالما ضرب الفيروس بريدي الالكتروني وأفقدني عناوين أصدقائي، ومحتويات أحرص عليها، ولطالما تسبّب في إرباكي في متابعة آخر مستجدات هذا العالم الثوري والسريع، والذي جعل الكون قرية صغيرة، أتاحت وسائل تواصله الاعلامي والاجتماعي تقارباً ملحوظاً عماده رأي عام متعدد اللغات موحّد الهدف بين متناقضات. وسائل تكرّست مرجعية لكل الشرائح والأعمار والأذواق والمعتقدات لم نعد بمنأى عن نارها ونورها، وتحت أعين الرقيب رغم الحرّيات الواسعة التي أتاحتها.. فبين الحرية والرقابة مسافة مصالح وصراعات دول.. وأجزاء من الكرة الأرضية لم تستطع كثر من نسائها تجاوز الأميّة، ولم تصلهن أدوات الثورة الرقمية بعد، ولا وسائل التواصل الاعلامي والاجتماعي للتعبير عن احتياجاتهن.. إنها واحدة من ثورات تطور البشرية، والأكثرها سرعة واتساعاً وتقديم خدمات. وأكثرها ريبة من أدواتها كما مع كل قفزة تطور يُحدثها العقل البشري.


منى سكرية، كاتبة وفنانة تشكيلية وصحفية عربية من لبنان

20 نيسان/أبريل 2025


مركز الحقول للدراسات والنشر

ملاحظة محرر الحقول : نشر النص بعنوان "من الورقي إلى الرقمي: حكاية" في الكتاب التاسع عشر الصادر عن تجمع الباحثات اللبنانيات، وكان موضوعه "النساء العربيات والمرجعيات في ظل الرقمية وفوضى المعلومات". وهو الكتاب متخصص.



التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

أضف تعليقاً

يرجى إدخال الاسم
يرجى كتابة تعليق