
"التمركس" و"صناعة التاريخ"
واللافت أن أحد منظري "بيريسترويكا" كان كريم مروة المسؤول الكبير في الحزب الشيوعي اللبناني، الذي سوف يتصدر، بعد سنوات قليلة، شلعة من اليساريين العرب، الذين انقلبوا إلى صف البرنامج الرأسمالي النيوليبرالي
يكاد "التمركس" في المجتمعات العربية أن يذوي. فالتيار الماركسي الذي ولد على هيئة أحزاب سياسية منظمة عند أواسط عشرينيات القرن الماضي، يبدو عازفاً عن تجديد نفسه، في "الفعل والقول" أو في "الممارسة" و"التطبيق". ما بقي من هذه الأحزاب كان فُتِنَ بـ"الربيع العربي" الذي اجتاح هذه المجتمعات منذ عام 2011، بل قبل ذلك، مع "ثورة الأرز" في لبنان عام 2005 التي امتدحها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن (السِكِّير). وسيخرج هذا التيار من تلك "الفتنة" بأضرار مؤذية، أين منها مرض الكساح.
ومراجعة الإفتتان الماركسي بـ"الثورات الملونة" العربية، مثل "ثورة الأرز" و"ثورة الطناجر" وما بعدها، هي "حكاية طويلة عريضة"، يحتاج سردها إلى صفحات وصفحات. لكن المهم، في هذه المقالة، أن نَذَّكَّر أنها تبدأ مع غرق ما بقي من الأحزاب الماركسية في الذهول النظري والعملي، عند انهيار "الإتحاد السوفياتي" السابق، وتلاشي "الأنظمة الإشتراكية" في دول وسط أوروبا والبلقان. نقول الذهول، بمعنى الضياع النظري. الحزب الشيوعي السوري عقد مؤتمراً حزبياً رفع فيه صورة المؤرخ العربي إبن خلدون!.
لقد عبرت تلك الأحزاب منذ نشأتها في الحياة السياسية العربية عما يمكن أن نسميه "التمركس" السياسي الذي يسعى إلى تنظيم وقيادة الكتل الشعبية لتحقيق مصالحها، من خلال تغيير النظام الإجتماعي ـ الإقتصادي ـ السياسي والإمساك بالسلطة السياسية لتغيير علاقات الملكية وإعادة توزيع الثروة ومنع احتكارها في المجتمع وإقامة نظام حكم اشتراكي في الدولة، مع اختلافٍ بشأن أدوات التغيير. وهذا هو أوضح وأدق معنى لليسار العربي. وهذا توضيح مبدئي، لنفهم طبيعة قوى اليسار، وكذلك، مكان تموضعها على خارطة جبهات الصراع الإجتماعي الطبقي الوطنية والقومية والدولية.
كذلك، من المفيد أن نشير إلى اختلاف "التمركس السياسي" عن "التمركس" الفردي، الذي عرفناه لدى رموز الحركة الأدبية والسينمائية والتشكيلية وفي الصحافة والإعلام. كذلك، يتميز عن "التمركس" الأكاديمي الذي اكتسب مكانة ونفوذاً في الغرب، مع إخفاق أنظمة الحكم النيوليبرالي في العقود الأخيرة، وتراجع الحركة الشيوعية والقوى الإشتراكية، وهذه مفارقة، في روسيا وأوروبا وأميركا الشمالية والهند وفي إفريقيا. فالغاية الأولى لـ"التمركس السياسي"، هي تنظيم وإطلاق وقيادة الحركات الإجتماعية الكبرى.
السؤال الرئيسي في هذا الباراديغم النظري هو كيفية حل أزمة النظام الرأسمالي، الذي يفشل، بسبب تناقضاته الداخلية، في تطوير القوى المنتجة التي تقع في الفقر والبؤس. ويقف إزاء هذه القوى مالكي وسائل الإنتاج الصناعي والزارعي المالي والخدمي ألخ. الأصل في هذه التناقضات هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. مثلاً، في لبنان، تخلص "حزب المصارف" الذي يتحكم بالسلطتين الإقتصادية والسياسية، من "المصارف المشتركة" بين الدولة و"قوى السوق"، التي أسستها "الدولة الشهابية"، لتخفف جور علاقات الملكية على أغلبية المواطنين.
هذا الفشل نراه في فرنسا مثلاً. منذ يومين، قبيل تصويت الجمعية الوطنية على إقالته من منصبه في رئاسة الوزراء، مع أنه لم يمض سنة واحد فيه، خطب فرنسوا بايرو، في ممثلي الشعب، محذراً : "هذا [التصويت] اختبار حقيقي [لي] كرئيس للحكومة (...) واخترتُ ذلك". إن "مستقبل البلاد على المحك" بسبب "ديونها المفرطة". وأضاف : "بلادنا تعمل وتظن أنها تزداد ثراءً، لكنها في الواقع تزداد فقراً كل عام، إنه نزيف صامت وغير مرئي، ولا يُحتمل"، وأضاف مخاطباً النواب: "لديكم القدرة على الإطاحة بالحكومة، لكنكم لا تملكون القدرة على محو الواقع".
كان على بايرو أن يدعو إلى تغيير الواقع لا "محو الواقع". وهذا يفرض عليه أن يعرف ويحاسب المسؤول عن تضخم "ديون البلاد، لتزداد فقراً كل عام". لم يفعل ذلك، لأنه كان سيواجه مهمة تغيير علاقات الملكية قليلاً، أو كثيراً. إن علاقات الملكية، في جوهرها، هي علاقات الإستحواذ على فائض القيمة من الإنتاج، بل علاقات القدرة على فرض هذا الإستحواذ أو الإستيلاء. فأساس علاقات الملكية في النظام الرأسمالي هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الصناعي والزراعي والمالي والخدمي، وعلاقات توزيع فائض القيمة وعلاقات استهلاك أو ادخار هذا الفائض الذي تنتجه القوى العاملة.
هذه هي القضية السياسية التي كانت وما زالت تبرر "التمركس السياسي" في لبنان وفي الكثير من الدول. إن حل تناقضات النظام الرأسمالي تكون بتغييره. لأن الأوليغارشيه أي القلة الإجتماعية السياسية الحاكمة، تحمي بقاء النظام، من خلال الضبط الدؤوب لموازين القوى على جبهة الصراع الإجتماعي الطبقي، باعتبارها الحزب السياسي الأقوى. وهناك أدوات وأساليب لفرض هذا الضبط، وإكراه المحكومين على الإذعان له. مثلاً، يغطي إعلام الأوليغارشيه اللبنانية بحماس أخبار "مجموعات المودعين" الذين نهب "حزب المصارف" أموالهم.
لماذا. لكي يكرسهم على صورة "أحزاب" مفتتة، ومتناكفة، يسهل إبعادها عن الموضوع المطروح، وهي مسؤولية المصارف عن الإنهيار المصرفي والمالي والإجتماعي الذي وقع عامي 2019 ـ 2020. وذلك، في اللحظة التي كان فيها مجلس النواب منهمكاً بمناقشة وإقرار تعديلات قانون المصارف الذي فرضه "حزب المصارف" على المجلس و... الدولة. لماذا، لمنع المساس بعلاقات الملكية، علاقات الثروة والسلطة في البلاد.
لنترك مثل لبنان، ولنأخذ الولايات المتحدة الأميركية مثلاً. لقد تعززت سيطرة "حزب الأوليغارشيه" على جبهة الصراع الإجتماعي الطبقي في هذه الدولة، تحت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، رغم مسوؤليته عن الإنهيار المالي ـ الإجتماعي في البلاد عامي 2008 ـ 2011. لكي نفهم ماذا وكيف حدث ذلك، يكفي أن نشاهد، وأتمنى أن تفعلوا ذلك، فيلم Inside Job (2010)، الذي ألفه وأخرجه الأميركي Charles Ferguson . هذا الفيلم هو من أفضل المصادر السينمائية الوثائقية عن المعنى التنظيمي ـ الإجتماعي لبنية وقوة هذا "الحزب" المنتشر على "جبهة الصراع الإجتماعي الطبقي" في أميركا.
في الباراديغم الماركسي عن عملية التغيير الإجتماعي ـ الإقتصادي والسياسي للنظام الرأسمالية، يمنح الظرف الموضوعي مكانة أساسية. لأن الحركة الموضوعية هي التي تخرج الوعي السياسي للمحكومين من حال الركود، الذي يمكن أن يكون قد استمر لعقود وأكثر. ولذلك، نرى الحشود الجماهيرية الهائلة، تخرج عن طوع الهيمنة الأوليغارشية، لتوفر فرصاً لتأسيس حركات سياسية ذات أحجام تاريخية. ويكون ذلك بالثورات أو الإنتفاضات أو بالإحتجاجات. فيصبح الوعي السياسي الشعبي هو ميدان المعركة بين طرفي جبهة الصراع الإجتماعي الطبقي.
إن من أكبر التحديات التي تواجه "التمركس السياسي"، في هذه الفترة، هي بحث واستخلاص دروس "الثورات الملونة"، التي خرقت الكثير من جوانب هذا الباراديغم. وهذا التحدي تتصاعد أهميته مع هيمنة شبكات التواصل الإجتماعي وأدوات الإعلام الفردي ومنجزات الذكاء الإصطناعي في تشكل الوعي العام. ونفترض أن تلك الدروس ستعيد تحسين صحة التيار الماركسي في المجتمعات العربية، ووقف تدهورها الذي لم يبدأ مع انهيار الإتحاد السوفياتي، بل قبل ذلك مع "بيريسترويكا" آخر الرؤساء السوفيات وهو ميخائيل غورباتشوف الذي، يصنف الآن، كأحد الخونة لمصالح الأمة الروسية.
كانت جريدة "النداء" اللبنانية تنشر المقالات أو المقابلات المفسرة والشارحة لهذه الحركة السياسية الأيديولوجية الموالية للغرب. واللافت أن أحد منظري "بيريسترويكا" كان (عبد الـ)كريم مروة المسؤول الكبير في الحزب الشيوعي اللبناني، الذي سوف يتصدر، بعد سنوات قليلة، شلعة من اليساريين العرب، الذين انقلبوا إلى صف البرنامج الرأسمالي النيوليبرالي بكل توحشه المدمر على العرب والأمم الأخرى. ولكن انحسار "التمركس السياسي" لا ينفي أن حل القضية الإجتماعية ـ السياسية التي بررت نشأته ودوره صعوداً وتراجعاً، أصبح أكثر إلحاحاً وطلبا.
كان الصديق العزيز المرحوم الدكتور حلمي شعراوي، الخبير العربي الأبرز في شؤون إفريقيا، آخر الماركسيين المهتمين بتدوين تاريخ الحركة الشيوعية العربية. وقد جمع خلال مدة إشرافه على "مركز البحوث العربية والإفريقية" في القاهرة، كماً من الشهادات والوثائق القيمة من أصحاب الشأن المعنيين. لكن ندرة الموارد حبست مشروعه في نطاق تاريخ الشيوعيين في وطنه مصر. وهناك الكثير من المصادر والمراجع التي تؤرخ الانتشار التيار الماركسي في الشام والعراق ومصر وبقية البلاد العربية بفترات معلومة وحوادث معروفة. لكن التحدي الذي يعيق أحزاب وأنصار هذا التيار الآن، ليس كتابة التاريخ بل صناعة التاريخ.
إن الإمساك بأسرار هذه الصناعة، يستوجب توسيع آفاق "التمركس السياسي" بشأن متغيرات جبهة الصراع الإجتماعي الطبقي العالمية. خصوصاً طبيعة القوى الإجتماعية ـ السياسية التي تتقاتل فيها. بعدما ضاق كثيراً في العقود الماضية. إن ضيق الأفق مستمر إلى الآن. في اجتماع جرى بين قياديين من الجزب الشيوعي اللبناني وممثلي منظمة ماركسية عربية كاد جدول الأعمال أن ينحصر في نقطة وحيدة وهي استذكار الخلافات الحادة، وبعضها كان بالسلاح، التي حدثت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي بين الشيوعي وحزب الله.
والعجيب، أن الشيوعي الذي يبقى أبرز قوى التيار الماركسي في لبنان ـ مع حسبان أنفسنا في حزب العمل الإشتراكي العربي والحزب الديموقراطي الشعبي من بينها ـ كيف يعجز عن التراجع عن تقييمه لمكانة المقاومة الإسلامية في إطار أوضاع المقاومة الوطنية في لبنان، ولا يزال عجزه قائماً.
فقد عقد هذا الإجتماع عند الشيوعي، بعد وقت قصير من توقف حرب الـ66 يوماً بين مقاتلي المقاومة الإسلامية اللبنانية وجيش الإحتلال "الإسرائيلي". وكذلك، بعد "حرب الإسناد" التي خاضتها هذه المقاومة الشجاعة من أجل وقف حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وهاتان الحربان، بالإضافة إلى الحرب التكنوأمنية التي شنتها "إسرائيل" على هذه المقاومة ومجتمعها المؤمن، هما من أكبر وأهم الحروب الإجتماعية الطبقية التي خاضتها قوة سياسية عربية منظمة ومجهزة، ضد النظام الرأسمالي العالمي في هذا القرن، وهي تحظى بأكبر قاعدة تأييد سياسي في لبنان والوطن العربي وفي العالم.
نعم، توسيع الأفق لـ"المتمركس السياسي" لازم وضرورة له في هذه المرحلة. ولا يستثنى أحداً من ذلك، ولا أنفسنا، في التيار الماركسي العربي بأكمله.
علي نصَّار
مدير موقع الحقول
الأربعاء، 18 ربيع الأول، 1447 الموافق 10 أيلول، 2025
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
أضف تعليقاً